يا حمام بتنوح ليه” (٣): حرب عبد الحليم ضد المطرب الأسمر

كتب : ياسر الزيات 

في جلساتنا المتكررة، لم يحك لي المطرب الراحل محمد حمام شيئا عن علاقته بعبد الحليم حافظ، ربما لأنه كان قليل الكلام بسبب المرض. ولم يخطر في بالي أن أسأله إذا ما كان يشعر بظلم ما، لأن علامات الرضا والطمأنينة لم تكن تفارق وجهه. لاحقا، تبين لي أن محمد حمام لم يكن يعيش من الغناء، بل من عمله مهندسا معماريا، أي أنه يغني لأنه يحب الغناء. ولاحقا، قرأت أنه قال إن عبد الحليم حافظ حاربه بشدة، وهذا- بالنسبة لي- ليس أمرا مستبعدا، على أي حال. لم يكن عبد الحليم، بشهادات المقربين منه، سهلا، وكان يدير صراعات عديدة للحفاظ على مكانته، وهو في ذلك تلميذ بار لأستاذه محمد عبد الوهاب. فما الذي يخيف عبد الحليم، بكل هيلمانه وشهرته وسطوته وتحالفاته الفنية والسياسية، من مطرب شاب صاعد؟
ظني أن عبد الحليم لم يكن يحارب محمد حمام وحده، بل حارب معه محمد رشدي كذلك، بخلاف حربه المعروفة ضد فريد الأطرش. وظني أن حمام ورشدي كانا يشكلان خطرا كبيرا عليه، لأنهما، بما يغنيان من أغان فولكلورية، كانا يحفران خطا غنائيا مختلفا عن التيار الغنائي الرئيسي الذي حفره عبد الوهاب، انقلابا على موسيقى سيد درويش، وهو الغناء الطربي العثمانلي، التيار الذي كان عبد الحليم أحد جنوده بامتياز. وعلى الرغم من اختلاف حمام ورشدي فيما يغنيان اختلافا جوهريا، فإن صعودهما كان خطرا حقيقيا، ليس على نجومية العندليب فحسب، ولكن على رسوخ التيار الذي يمثله كذلك. كان رشدي يمثل خطر الفولكلور الشعبي القريب من وجدان المصريين وموسيقاهم التي يعزفونها في أفراحهم، فيما كان حمام يمثل الصورة النقية سياسيا للمطرب الوطني الفولكلوري، غير المرتبط بنظام سياسي قاد شعبا بأكمله إلى الانكسار والهزيمة، وهو- بذلك- الصورة النقيضة لصورة عبد الحليم حافظ، ابن يوليو ونظامها.
في حين كان عبد الحليم حافظ يغني من الزعيم وإليه، ظهر محمد حمام ليغني من الشعب وإليه. وحتى عندما غنى عبد الحليم أغنيته الأكثر حزنا، وصدقا، بعد الهزيمة، وهي “عدى النهار”، كانت الأغنية تحمل من اليأس أكثر مما تحمل من الأمل، على عكس ما فعل حمام في “يا بيوت السويس”. وكان صوت حمام مستندا إلى السلم الخماسي في الموسيقى، المتجذر في الوجدان المصري، لأنه يحمل في أنغامه شحنة ثقافية ممتدة من الموسيقى الفرعونية والإفريقية والصحراوية. كان في صوته خليط سحري يختلف تماما عن القضبان الغنائية العثمانلية التي يمشي عليها عبد الحليم، مهما بلغت هذه القضبان من تطور. وربما لهذا كان خطر حمام على عبد الحليم أكبر من خطر محمد رشدي، الذي كان يمشي على القضبان نفسها، لكن غناءه يقف على محطات المراكز والقرى، ويحمل منها ما استطاع حمله من الغناء الشعبي. كان حل محمد رشدي سهلا بالنسبة لعبد الحليم، فقد نجح في تأميم الفولكلور الغنائي بنفسه لنفسه، بعد أن خطف الملحنين والشعراء أنفسهم الذين كانوا يكتبون ويلحنون لرشدي، وغنى أغاني ذات ثيمات فلكلورية كثيرة، مثل “زي الهوا” و”أنا كل ما أقول التوبة”. أخذ عبد الحليم الفولكلور، ووضعه تحت “الدش”، وغسله جيدا، تماما كما فعل عبد الوهاب ليعيد إحياء الطرب العثمانلي، وألبسه ثوبا جديدا أنيقا، ونجح بذلك في احتواء الغناء الفولكلوري تحت مظلة التيار الغنائي الرئيسي. وبدلا من أن يكون لدينا خطان غنائيان متوازيان يثريان الثقافة الموسيقية المصرية، أحدث عبد الحليم ثورة غنائية مضادة، وأعاد الأمور إلى ما كانت عليه قبل ظهور الشابين المحمدين حمام ورشدي.

عن غرفة الأخبار

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

شاهد أيضاً

أعد لنا وزارة الهجرة يا سيادة الرئيس السيسي

كتب – رئيس تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي | سعيد السبكي سيادة الرئيس عبد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *