أسورة الشتاء

أسورة الشتاء : قصة قصيرة

بقلم أحمد أبو المجد

تركت لي أسورتها الفضية ورحلت، كان ذلك في صباح أحد أيام الشتاء الباردة، الذي يثقل على ضيوف مدن أوربا الشرقية ليدفعهم ككل شيء في تلك البلاد للعودة إلى أوطانهم الدافئة. كنت أفكر حينها في الهروب الغير شرعي إلى أحد دول غرب أوربا بحثاً عن فرصة أفضل للحياة. ذلك بعد أن أغلقت سفارات تلك البلاد أبوابها الشرعية بوجهي دون اعتذار أو وعود. وتركتني وحيداً بين خيارين لا ثالث لهم إما الصمود في وطني الذي كان يضيق يوماً بعد الأخر على صدر أبنائه وكأن حصة الأكسجين في السماء أصبحت لا تكفي كل هذا البؤس الكامن بوجوه المواطنين. أو الهرب إلى إحدى البلاد الأوربية الفقيرة التي تحتاج إلى كل فلس يدخل خزينتها.

هربت لأنني كدت أغرق في بحر من ظلمات الذكريات التي كادت أن تمزق رئتي.
عقدت نيتي يومها على المغامرة وهاتفت الأستاذ ناظم الذى كنت قد ألتقيت به منذ أسبوعين بالصدفة في أحد المقاهي التي يتردد عليها العرب، كان قصير القامة، وزنه الزائد ونظارته الدائرية وسترته الأنيقة  أشاروا بأنه  كاتب صحفي أو أستاذ جامعي، حتي فاجئني في منتصف حديثه الذى يبدو أنه أعد مقدماته تلك حتى يصل إلى تلك الجملة التي وجهها لي بالعامية السورية  التي أحبها ” بدك تطبع ع اليونان ومن هونيك بتروح ع حيلا بلد تانية ؟”

ابتسمت له وشكرته وقبل أن أودعه أعطاني رقم هاتفه فلربما أحتاج إليه يوماً ما.

كان يوم الثلاثاء هو الوقت المقرر للهروب، اتفقنا على المبلغ المطلوب ومكان الالتقاء، `ألتقيت برفقائي في الرحلة قبل أن تقلنا السيارة إلى الحدود،

محمود المحلاوي مراهق لم يبلغ السابعة عشر بعد، أخبرني بلهجة مصرية أصيلة إنه بلا فخر حاول الهروب عبر المراكب الغير شرعية أكثر من مرة ولكنه ضُبط من قبل حرس السواحل الذين لم يتسامحوا أبداً معه.

إما ناظم الشاب العراقي طويل القامة الذي أسميته ناظم المهيب، نظراً للهيبة التي تصاحبه طوال الوقت فكان في صمته هيبة وفى كلماته القليلة هيبة بالإضافة إلى هيبة اللهجة العراقية في ذاتها.

في الكرسي الأمامي جلس شاب مغربي طويل القامة حليق الرأس يبدو كلاعبي كرة السلة الأمريكية، كان يتحدث في الهاتف بالدارجة المغربية التي لا أفهم منها سوى بعض الكلمات القليلة الممزوجة باللغة الفرنسية السائدة في دول المغرب العربي. كان يبدو إنه لا يريد الحديث مع أحد حتى فاجأته بسؤالي الفضولي، في أي مدينة تعيش في المغرب؟ ألتفت لي وصمت قليلا ثم أجاب ” أنا أصلي من الحسيمة من ريف المغرب ولكن دابا ساكن في الرباط”

قلت الحسيمة، موطن محمد بن عبد الكريم الخطابي أسد الريف، وهنا اطمأن لي ثم قال وعلي وجهه ابتسامة
وهل تعرف الخطابي؟

وفي هذه اللحظات قاطعتنا غزل الفتاة السورية التي لم تزر مصر إطلاقاً ولكنها تتحدث العامية المصرية بطلاقة تأثراً بالسينما والدراما المصرية. كان شعرها الناعم الطويل ينسدل على جانبي خديها حتى أعلى ثدييها، شفتاها يتعانقان بشغف كصديقين قدامى لم يتقابلا منذ زمن طويل، وفوقهما من اليسار طُبعت حسنة صغيرة أسفل أنفها الطويل نسبيا مما أضفى جمالاً إضافياً لعيناها الواسعتان.

تحدثنا طويلاً طوال الطريقة عن كل شيء تقريباً، حكت لي عن تلك الليلة المريرة التي غادرت فيها ريف الشام _تحديداً منطقة دوما _ بعد أن وصلت وطأة الحرب إليها كانت تقاوم البكاء ولكن تمردت دموعها عليها حين وصفت كيف شهدت مقتل أخيها أمام عينيها. تذكرت أيضا أبيها الذي فقد عقله تماما حتى إنه لم يستطع التعرف عليها طول الوقت وأختها التي لم ترها منذ خمسة سنوات وتأمل بإن تنجح تلك الرحلة في إعادة لقائهما. سألتها بوقاحة وماذا عن الوالدة. مالت برأسها على صدري وقالت رحلت دون أن أودعها. صمتنا حتى وصلنا إلى مكان يشبه الغابة ثم قال المهرب استعدوا سنكمل الطريق إلى الحدود مشياً على الأقدام.

في الطريق المرهق إلى الحدود كنت أحاول أن أخفف من وطأة الموقف عن طريق المداعبات الفكاهية، فحينا أوجه حديثي نحو ناظم المهيب قائلاً غنى لنا أغنية لكاظم الساهر فأنتما تتشابهان في المظهر والصمت وبثلاثة حروف من أسماؤكم الرباعية كان ينظر لي محاولاً إلا يبتسم ولكن كانت تنفلت الابتسامة منه رغماً عنه.

أنظر إلي سعد المغربي وأقول، لو كان جدك الخطابي يعلم إن بعد كل مقاومته تلك للاستعمار سيهرب أحفاده إلى المستعمرين لتوقف عن المقاومة وتفرغ للتأمل، أما المحلاوي فكان في رحلة قصيرة مع أحلامه، يتخيل صديقته المستقبلية التي سيلتقى بها فور عبوره للحدود وستقع في غرامه من أول نظرة ثم تغير حياته إلي الأبد.

هناك رأيتها عارية تقف تحت شجرة عصف الشتاء بأوراق خريفها فبدت حزينة، تعجبت أن لا أحد ينظر إليها كأنها غير مرئية، كان يخرج من نهديها شعاعان من نور أبيض يحجب رؤيتها عني كلما اقتربت، تذكرت قصة الشيخ حسنى في فيلم (الكت كات) وخفت أن يذهب نظري دون عودة. فقت على أصابعها الرقيقة وهى تداعب خصلات شعري، نظرت إلى بهدوء وأعطتني أسورتها الفضية دون أن تنبث بكلمة واختفت.

ظللت مذهولاً لفترة حتى أدركت أن من حولي ينظرون لي بغرابة كأنني أقف عارياً أو أحدث نفسي تحت شجرة كانت قد عادت إليها أوراقها الخريفية، تأكدت من إنني لست في حلم، ثم قلت في نفسي ربما كان هذا كله من صنع خيالي المفرط في إبحاره دائماً ولكن من أين جاءت تلك الأسورة التي في يدى الآن؟
وقعت إجابة المحيطين بي كالصاعقة على ” لا شيء في يدك!”

حتى جاءت غزل تطمئني بانها تراها ثم ربطت على يدى وضغطت على الأسورة، دون مقدمات التصقت شفتانا وغبنا في قبلة طويلة، وحين فتحنا عيوننا من جديد وجدنا أنفسنا في مكان أخر، كان واسعاً ناصع الخضار يبدو أن لا حروب فيه ولا صراع ولا أزمات اقتصادية. الكل هنا يغنى في شغف حتى الأشجار والسماء ناصعة بشمسها المضيئة لا المحرقة. أخذتها بين يدي وبدأنا نرقص في خفة كالعصافير أثناء ذلك لمحت تلك السيدة تجلس تحت أحد الأشجار وترتدى تاجاً وملابس ملكية.

عن غرفة الأخبار

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

شاهد أيضاً

ثرثرة» على مقهى «تايم نيوز»:من أجل شخص «واحد» فقط.. «يموت» الآلاف!! 

«ثرثرة» على مقهى «تايم نيوز»:      من أجل شخص «واحد» فقط.. «يموت» الآلاف!!  ________________________ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *