قصبة الجزائر العاصمة سفر عبر التاريخ وإرث حضاري عريق

شيد العثمانيون قصورها واحتضنت بيوتها المقاومين ضد فرنسا . . قصبة الجزائر العاصمة سفر عبر التاريخ وإرث حضاري عريق . . تقاليد راسخة في جذور سُكانها الأصليين .. الحايك صناعة الفخار والنحاس والموسيقى الشعبية

خ.بلوزداد | الجزائر

بأعالي العاصمة الجزائر، وبالتحديد في “باب الوادي”، أكبر حي شعبي، تتربع القصبة العتيقة على كتلة جبلية، فكل الطرق تؤدي إليها. وتمتزج ريحها بنسمات البحر المتوسط الذي تطل عليه. ولعل أبرز شيء يشدكم إلى المكان هو عبق الياسمين وماء الزهر اللذان يعطّران ممراتها الضيقة.

وأنتم تتجولون بممراتها الضيقة ومبانيها العتيقة، يخيل لكم وكأنكم في العهد العثماني، سلالم كثيرة وأزقة عديدة، مداخل ومخارج تصادفكم من كل جهة. إنها “القصبة”، أشهر الأحياء العتيقة، ومعقل القصور التاريخية.

واشتهرت القصبة بالمديح وبالأغاني الشعبية التي كان لها صدى كبير، واشتهر بأدائها الأستاذ الحاج محمد العنقى وغيره من مطربي الفن الشعبي.

كانت القصبة قبل مجيء العثمانيين إلى الجزائر منطقة عظيمة في البحر الأبيض المتوسط، وتشتهر بكنوز عديدة، مثل المساجد والعيون التي كان عددها يقدر بـ 150 وتقلص إلى سبع عيون، إضافة إلى الزوايا والقصور. جعلها تصنف ضمن معالم اليونيسكو 1992.

وفي العهد العثماني تتمثل مدينة الجزائر في القصبة، وكانت مقر السلطان، وتم بناؤها على الجبل المطل على البحر الابيض المتوسط لتكون قاعدة عسكرية مهمتها الدفاع عن القطر الجزائري كله، وقد كانت القصبة عبارة عن حصن يغلق ليلا وله عدة أبواب في جهاتها الأربع أهمها باب الوادي من الغرب وباب الجديد في الجهة العليا وباب الجزيرة (دزيرة) من جهة البحر وباب عزون من جهة الشرق.

  وتحوي القصبة عدة قصور أهمها   قصر الداي- أو كما يعرف بدار السلطان- وقصر الرياس  وقصر خداوج العمياء ودار عزيزة، و كذلك تحتوي القصبة على مساجد عديدة هي  الجامع الكبير  والجامع الجديد  وجامع كتشاوة وجامع علي بتشين وجامع السفير وجامع السلطان وجامع سيدي رمضان بالإضافة إلى مساجد صغيرة كمسجد سيدي محمد الشريف وسيدي عبد الله وسيدي بن علي بالإضافة إلى ضريحها الشهير سيدي عبد الرحمن الثعالبي الذي لا يزال يمثل مزارا كبيرا في حي القصبة بالإضافة إلى جامع كبير تم هدمه في بداية الاستعمار الفرنسي كان يتوسط ما يعرف اليوم بساحة الشهداء.

كما تتميز قصبة الجزائر العاصمة بتشكيلة مميزة من المنازل التي أطلق عليها اسم الدويرات بالنظر الى صغر حجمها مقارنة مع المنازل الاخرى التي اشتهرت في القصبة واصبحت قصورا ومتاحف.

وتضم قصبة الجزائر العاصمة على 615 دويرة منجزة بنفس الطراز، و فيما يلي بعض الصور التي ترسم معالم الدويرات في قصبة الجزائر المحروسة.

صنفت قصبة الجزائر ضمن التراث الثقافي العالمي عام 1992، فقد بني هذا الحي قبل اختراع وسائل النقل الحديثة وشوارعه عبارة عن أزقة ضيقة وأنفاق تحت العمارات وسلالم، وتقطن بدويرات القصبة عائلات توارثت المنازل ابا عن جد كما تم بيع البعض منها الى اشخاص ارادوا الاستمتاع بالخصوصية والجمال والعراقة في حياتهم اليومية.

وتحوي دويرات القصبة على ساحة مربعة الشكل مكشوفة بدون سقف في وسطها يعرف بصحن الدار وبئر ونافورة ماء، بنيت من حولها كل شقق البيت في معمار إسلامي متميز.

وتتميز دور القصبة بنوافذ صغيرة مزينة بقضبان حديدية جميلة، وتتميز دور القصبة أيضا بالتقارب الشديد بين بعضها البعض بحيث يسهل جدا القفز من دار إلى دار بل يستطيع الإنسان اجتياز القصبة كلها عبر سطوح المنازل.

قام العديد من قاطني الدويرات بعمليات ترميم واعادة تأهيل لمرافقها الا ان المهندسين المعماريين يؤكدون على ضرورة الحفاظ على الطابع الاثري للمنازل وارجاع مهمة الترميم الى المختصين في التراث.

ويرى الزائر لبعض الدويرات التي تفتح الابواب للسياح المحليين والاجانب ان الطابع الاندلسي والعثماني في العمران موجود بقوة في كل اركان الغرف، بالرغم من عدم وجود بهرجة كبيرة كتلك التي تلاحظ في القصور الكبيرة.

تحاول العائلات القاطنة بدويرات القصبة ان تحافظ على تفاصيل الغرف الضيقة لهاته المنازل من اجل ابراز جمالية المكان التي تتوارثه الاجيال من خلال الابقاء على أكثر قدر من تفاصيل العمارة التي وجدوا المنازل عليها.

وبنيت القصبة على طراز تركي عثماني يشبه المتاهة في تداخل أزقتها بحيث لا يتسطيع الغريب الخروج منها لوحده، لوجود أزقة كثيرة مقطوعة تنتهي بأبواب المنازل، وتحوي القصبة على عدة أزقة أهمها “زندقة العرايس” و”زنيقة مراد نزيم بك ” وفيها عدة عيون مشهورة كالعين المالحة في باب جديد وبئر جباح في قلب القصبة وزوج عيون في أسفلها وقد تم هدم جزء منها بعد الاحتلال الفرنسي عام 1830.

 وتحوي قصبة الجزائر العاصمة 1800 بناية بين مسجد وجامع ودويرات وكذا بنايات استعمارية، تستدعي نسبة كبيرة منها الترميم واعادة التأهيل من اجل الحفاظ على الارث الهندسي العريق، وبحسب الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية فقد تم ترميم قرابة 271 دويرة حديثا، في انتظار اعادة اسكان العائلات القاطنة في الدويرات المتبقية من اجل الشروع في عمليات الترميم واستعادة وجه الدويرات الحقيقي.

وأثناء سيرنا بين أزقة هذه المدينة القديمة، لاحظنا أنها تنقسم إلى قصبة سفلى تضم في أحيائها قصوراً عديدة كانت ملكاً لحكام الجزائر في الفترة العثمانية، وقصبة عليا وجدنا فيها بيوت العامة من الجزائريين وهي التي تسمى “دويرات” أو جمع بيوت، في حين يوجد معهما حي البحرية وقصر الدار والذي يسمى دار السلطان.

وبين كل هذا يجد الداخل للقصبة متعة في البحث عن كل ما هو تقليدي وسط أزهار منبعثة من بعض البيوت التي لا يزال ملاكها متشبثين بماضي أجدادهم رغم خطر انهيار البيوت بسبب قدمها، وحزم السلطات المحلية على ترميم هذه المدينة خاصة أنها تعد تراثاً عالمياً منذ سنة 1992.

قصور تزين أزقة القصبة

وفي مدخل ضيق قريب من جامع كتشاوة، توجد دار خداوج العمياء (قصر خداوج) الذي يعد واحداً من قصور كثيرة متواجدة في هذه الحي العتيق، حيث لا تزال على حالها رغم مرور سنين على تشييده.

ويذكر المؤرخ “لوسيان جولفين” أنه بني عام 1570 من طرف يحي رايس، وهو ضابط في الأسطول الجزائري، في حين تشير مصادر أخرى إلى أن بناءه كان من قبل “حسن خزناجي” وهو أمين الخزينة لدى الداي محمد بن عثمان، وتقول الأسطورة المتداولة إن مالكة القصر خداوج فقدت بصرها من كثرة تحديقها مطولاً في المرآة معجبة بجمالها، ومنه جاء اسم القصر.

وغير بعيد عن قصر خداوج العمياء، توجه فريق “اخبار الساعة ” إلى دار مصطفى باشا (قصر مصطفى باشا)، الذي تم إنهاء بنائه في عهد الداي مصطفى باشا سنة 1799م، حسب ما لفتت إليه اللوحة التأسيسية المثبتة فوق مدخل السقيفة الكبرى، وأقام الداي مصطفى باشا في هذا القصر مع عائلته وخدمه فكان يلجأ إليه مرة في الأسبوع برفقة حرسه الشخصي إلى أن اغتيل سنة 1805 م.

وتتميز هذه القصور الموجود غالبيتها في القصبة السفلى، بطابع التربيع وتمتاز أيضاً بأصالة مواد بنائها من خشب ثمين ورخام نقي مع مربعات خزفية متنوعة، وعلى سبيل المثال يحتوي قصر مصطفى باشا على 500 ألف مربعة خزفية رفيعة تكسو معظم جدرانه والموزعة بطريقة جمالية رائعة.

والداخل لهذه القصور التي أصبحت وقفاً يرى أنها ذات طراز موريسكي مغاربي بعيدة نوعاً ما عن البناء العثماني، فيها ما يسمى وسط الدار، العرصة، الفناء الداخلي والزليج (بلاط) الذي يزين جدران القصور، مع وجود فوارة (نافورة) وبئر، وتحتوي كذلك على مخارج سرية للبحر يستعملها ملاك القصور في حالات الطوارئ.

ويوجد في القصبة العتيقة قصور أخرى وهي “دار القاضي، دار أحمد باشا، دار عزيزة، دار الحمراء، قصر الرياس، دار السلطان، دار الصداقة، دار خوجة الخيل، دار حسن باشا، دار سركاجي القديمة، دار النخيل، دار الألفية، قصر الداي”.

عيون موزعة في المدينة القديمة

وأثناء تجولنا في القصبة العليا، رأينا عيوناً يتزود منها ساكنة المدينة القديمة من أجل الشرب أو حتى غسيل الملابس وتطهير ما يسمى وسط الدار، وهي عيون جلها مزينة بأعمدة رخامية أو من التوف مع تزيينها بكتابات ومربعات خزفية ممثلة على شكل أقواس جميلة، وغالباً مستندة على مبنى. 

وتقول زهرة عيساوي في كتابها مربعات الخزف “الفترة العثمانية في الجزائر” إن هذه العيون كانت تسمح للسكان بالتزود بالماء، إضافة إلى الخزانات والآبار التي كانت أملاكاً خاصة، التي تعد عاملاً أساسياً في عمارة المدينة، كما كانت تسمى عليها أحياؤها.

وتشير الكاتبة ذاتها إلى أن مصدر هذه العيون ماء الينابيع التي كانت هي الأصل في وجود مدينة الجزائر، حيث أقيمت قرب الأبواب “باب عزون، باب الوادي، باب جديد”، وبمحاذاة المساجد والزوايا.

حرف صامدة

كما تحتضن قصبة الجزائر أعرق الحرف التي أتقنها أبناؤها وحافظوا عليها جيلاً بعد جيل، إذ يحدثنا السيد خالد محيود أو عمي خالد -كما يحلو لأبناء حي القصبة العليا تسميته عن أهم أسرار النجارة التقليدية بطابعها الموريسكي الذي يعود لقرون خلت.

وعاد عمي خالد بـ”اخبار الساعة ” إلى سنة 1938، عندما قرر والده إتقان هذه الحرفة التراثية واتخاذ محل له على مستوى القصبة السفلى، ليلتحق عمي خالد بحرفة والده سنة 1965 وهو ابن 14 سنة.

ورغم طغيان الآلات على حرفة النجارة إلا أنه يحافظ على النحت اليدوي الذي يتميّز بالإتقان، فمن نشر الخشب إلى الرسم عليه، ثم الانطلاق في عملية النحت في انتظار الشكل الجمالي النهائي الذي قد يستغرق من الحرفي 10 أيام للقطعة الواحدة.

عمي خالد الذي يتخذ من محل في أعالي القصبة محلاً له رفقة أبنائه الذين اختاروا بدورهم الحفاظ على هذا التراث الهوياتي، يُحدثنا عن تراجع الإقبال على هذا الفن، سواء لارتفاع الثمن الذي يطبع الحرف اليدوية أو لطغيان نجارة الآلات التي تتميز بالسعر المنخفض بمقابل الجودة الضعيفة.

تراجع الإقبال انعكس أيضاً على إقبال الشباب على تعلم هذا النوع من الحرف رغم أهميته في الحفاظ على الوجه الجمالي والهوياتي للجزائر.

الداخل لمحل عمي خالد يعود به الجو إلى عبق قصور القصبة لما يتضمنه من صناديق طالما تزينت بها غرف العرائس، ومرايا محاطة بنقوش موريسكية وعلَّاقات الشموع والبخور وحامل الستائر وكل ما يمتع العين ويعيدها لصورة تجسد ببساطة بطاقة هوياتية للجزائر العريقة.

حرف النحاس تحاكي تراث قديم

وأنت تتجول بين أزقة القصبة الضيقة كثيراً ما تصادفك حرفة أصيلة تحافظ على وجودها بقوة، حيث ينتقل الكثير من الزوار إلى القصبة لاقتناء الأدوات النحاسية، إذ يُعرف حرفيو النحاس في القصبة بجودة مصنوعاتهم إلى جانب جماليتها.

وينتعش الإقبال على وجه الخصوص بالتزامن مع المناسبات والأعياد خاصة شهر رمضان، حيث يعد السني (صينية نحاسية) وبقراج النحاس (الإبريق) أجزاء أساسية من جلسات السهرات الرمضانية.

واكد أحد حرفيي النحاس على مستوى القصبة السفلى، تمسك الجزائريين بهذه الحرفة وإقبالهم على أدواتها نظراً لأهميتها وصحتها مقارنة بالأواني الحديثة.

موضحاً أن الطلب متواصل رغم سعرها الباهظ، سواء تعلق الأمر بالاقتناء أو بتجديد أوانيهم القديمة والتي يتوارثونها ويعود عمرها لأزيد من قرن خاصة السني والمهراس والقدور.

ويدعو حرفيو الصناعات التقليدية السلطات لإيلاء هذا التراث الوطني مكانة أكبر وإيجاد آليات وصيغ مناسبة للاهتمام به ولخلق جو يسمح بإحيائه والحفاظ على أحد أهم وجوه ليس فقط القصبة إنما الوجه المعنوي والهوياتي للجزائر.

القصبة معقل للثوار

القصبة هذا الحي الشعبي لم يبخل يوماً على الجزائر، فمثلما يرافقه مادياً ومعنوياً رافقه بالأمس القريب في رد وصد عدوان الاستعمار الفرنسي للجزائر، فاحتضن وآوى أبناء الثورة التحريرية أو ما عرف تاريخياً بـ”واضعي القنابل” أو الفدائيين، خلال ثورة التحرير الجزائرية (1954-1962) لتبقى أهم معاقلهم شامخة لليوم.

ويحفظ متحف علي عمار في أعالي القصبة ذكرى ثلة الثوريين الذين استشهدوا بأحد دويرات القصبة بعدما دمرها جيش المحتل بالمتفجرات بتاريخ 8 أكتوبر من سنة 1957 بعد حصار دام يوماً كاملاً واشتباكات مع العدو.

وسقط في ميدان الشرف كل من الشهداء: حسيبة بن بوعلي، ومحمود بوحميد، والطفل ياسف عمر وعلي عمار المدعو “على لابوانت”، بطل معركة الجزائر التي جسدها المخرج الإيطالي جيلو بونتيكوورفو في فيلم عرف شهرة كبيرة سنة 1966 تحت مسمى “معركة الجزائر”.

أزقة القصبة ودويراتها وأهلها كثيراً ما أخفوا الثوار وقدموا أبناءهم وقوداً لثورة كانت من أقوى الثورات في العالم، فغير بعيد عن متحف “علي لابوانت” نجد مقهى “قهويجي” الذي يحتفظ بشكله الأول منذ الاستقلال.

ورغم صغر الحيز الذي يشغله إلا أن صاحبه جعل منه تحفة فنية تاريخية تخلّد وجوه الثورة التحريرية من أبناء القصبة، إذ يضم مختلف صورهم واجتماعاتهم وحتى قصاصات الجرائد التي ذكرتهم.

القصبة بأزقتها الضيقة وقصورها ودويراتها تخفي آلاف القصص كما تحيي عالماً خاصاً يحتفظ به أبناؤها كموروث من جيل إلى جيل، إلا أنه يحتاج إلى من يصونه ويدعمه.

القصبة الهام الكتاب الجزائريين

وكانت القصبة مصدر إلهام لكبار الكتاب الجزائريين من بينهم، الكاتب الرّاحل محمد ديب، المعروف بروايته الشهيرة “دار سبيطار”، و وروايتي “الحريق” و”الدار الكبير”؛ فسرد الكاتب في هذه الروايات معاناة سكّان القصبة في سنوات الحرب، وصور التعذيب الذي تعرّض له الجزائريون من قبل الاستعمار الفرنسي.

عن غرفة الأخبار

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

شاهد أيضاً

صلاح السعدني في رحاب الله | العمدة سليمان غانم في ليالي الحلمية

ودعت مصر جثمان الممثل الراحل الكبير إثر وفاته (81 عاماً) في ساعة مبكرة من صباح …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *