المناسبات الثقافية بين إحتفاء الذاكرة وغوغاء الفضاءات الافتراضية

تايم نيوز اوروبا بالعربي|نسيمة طايلب – جامعة الشلف

عَهِدْت منذ أَتَذكر، أن أرى أهلي وعَوائل جيراني بمختلف انتماءاتهم الثقافية والجغرافية يُعبرون بطرق شتَّى عن فرحتهم خلال المواعيد الاحتفالية الدينية (محرم، عاشوراء..) والثقافية (عيد الفخار والزربية والحلي...)، والتاريخية (عيد الثورة والاستقلال) وحتى الرياضية بِصُدور رحبة ووجوه مُستبشرة وأنفس حامدة لنعم الله، رزقا وأمنا واستقرارا دون أي تكلف أو حساسية تذكر.
لطالما عبّرت هذه الاحتفاليات عن الثراء المناسباتي لبلد قاري شاسع تتنوع فيه العادات والتقاليد بين سكانه من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، كما كانت بابًا للتبادل الممارساتي قولاً وأكلاً وملبسًا تحت غِطاء العادة والتقليد الاجتماعي، مُنصهرةً في بوتقة الهوية الثقافية. ولم يخطر على بالنا آنذاك أنّ مآل التنوّع تعارض أو تناقض في الانتماء والأصل والممارسة، إلى غاية الانفتاح الرقمي الذي أبان عن شرخ هوياتي يُغذيه التطرف الثقافي من جهة والتعصب الفكري من جهة أخرى، فعوض أن تُقَرّب التقنية الثقافات المحلية لبعضها، عملت فئة من مستخدميها على التأسيس للخلاف بناء على الاختلاف، بما يعزز الفراغ الثقافي المحلي ويشتته على حساب الثقافات العالمية المتوغلة والممتدة.
قُبَيل هذه التحولات، كانت احتفالية “النّاير” أو ما يسمى بـ “باب السنة” (ثابورث أُوسُڤاس) موعدا سنويا تزين فيه المرأة الجزائرية على تنوع انتماءاتها “مائدة عشائها” أو ما يسمى بـ (إِيـمنسي أوسڤاس)، بما تيسر ولذ وطاب من المأكولات المحلية المصنوعة منزليا وفق نسق غذائي متكامل، وكانت الحبوب المجففة (الشرشم) والمكسرات المحلاة والـمُعجنات المنزلية سيدة الموائد، وأكثرها حضورا واستهلاكا (بما في ذلك لخفاف، لمسمن/الـملوي، الفطائر بأنواعها، الكسكسي، العيش/ البركوكس، الشخشوخة، الرشتة، الخبز العشبي…) لارتباطها بالأرض التي عُدّت إلى زمن قريب رأسـمال الأسر ومَوْرِد عيشها ورمزا للخصوبة والنماء، يتخللها العديد من الممارسات الثقافية المختلفة من أسرة لأخرى ومن منطقة لثانية.


فاحتافلية “ناير” المصادف للثاني عشر من شهر جانفي لا تعدو أن تكون تكريسا لعادة التبرك بالأرض ودخول موسم فلاحي يُسْتَبشَر بنجاحه، وفي دراسة أكاديـمة أنـجزتـها الباحثة تم تصنيف المناسبة ضمن الاحتفاليات الموسمية المرتبطة بدورة حياة الطبيعة، دون إنكار للبعد الثقافي والديني للمارسة، نظرا لتداخل أغلب الـمرجعيات الـمنظرة للمناسبة في تصنيفها بين الموروث الثقافي الواجب حفظه وتثمينه قبل زواله، وبين الطقس الديني ذي الأبعاد الوثنية، لكن الواقع الممارساتي يثبت فرضية العادة والتقليد وينفي فرضية المعتقد.
فأغلب إن لم أقل كل من أعرف مـمن يـحتفلون بهذه المناسبة لا يفعلون ذلك، إلا لأنهم وجدوا أهاليهم على خطى الاحتفال، دون أي اعتقاد شركي يذكر، ولا حتى دون معرفة بمرجعيتها التاريخية أو الدينية التي تعالى الحديث عنها إلا مؤخرا، فما يتم الاحتفال به من الله والتنعم به من نعم الله و ما الحمد والشكر إلا ابتغاء وجه الله.
إنصافا للمحتفلين بـ “ناير“، استحظرتني الاحتفاليات العائلية المقامة بالمناسبة على مدار عقود من الزمن، فلم أجد بين من يحتفل حولي قولا أو ممارسة لفعل شِرْكِي واحد، غير تحضير مائدة احتفالية قد نُعدها لما نحظى بأول راتب شهري، أو بنجاح في امتحان مهم، أو ترقية وظيفية، أو مناسبة عائلية، والمشترك بينها تقاسم السعادة والسرور مع الأهل والأقربين، فإن أُسقط الدافع الثقافي للاحتفال يبقى الدافع الاجتماعي قائما، فالعديد من العائلات الجزائرية تتخذ من المناسبات على اختلاف تصنيفاتها موعدا لِلَمّ الشمل والتقاء أفراد العائلة على طاولة العشاء باعتبارها عطلة مدفوعة الأجر.
أما بخصوص البعد التاريخي للمناسبة، فلم أسمع قبل عشر سنوات من اليوم أحدا يناقش الموضوع بهذه الوتيرة والتداول، والمـحير في الأمر أن أغلب النقاشات من أشخاص غير مختصين ولا ملمين ولا متحققين من مصادر معلوماتهم، شُغْلُهم الشاغل تناقل المنشورات والسير وفق التسارع الرقمي الحاصل في الموضوع والتَزَمُّن للحدث، فهل هي بوادر زيادة الوعي أم زيف الوعي؟
مما لا شك فيك أن تزايد وتيرة استخدام الفضاءات الرقمية في إنتاج وإعادة إنتاج المعلومة دون التحري في مصداقيتها وموثوقية مصادرها، قد ساهم بشكل كبير في تغذية غوغاء الفايسبوك التي أخذت منحى تَصعيديا، أراه خطيرا، بلغ مبلغ التكفير والشرك الأكبر؛ وفي هذا الصدد لا يفوتني التعريج على قضايا التخوين والتكفير الرقمي، فأُنبِّه إلى المسؤولية الكبيرة والإثم الأكبر الذي يقع على ناقله قبل صاحبه، فالعبرة من الأساس في نية الفعل قبل الممارسة، فكثيرا ما اتـهم بعض الأشخاص عبر مواقع التواصل الإجتماعي بأنهم خونة، فتبين بعد مرور الزمن أنهم أكثر وطنية ممن اتهمهم، لذا وجب التحري قبل الحكم، ووجب اتقاء ما لسنا أهلا به؛ وليست الباحثة في موضع تخصصي يسمح لها بالخوض في الجانب الديني للموضوع، إنما تم عرض معطياته من الجانب الممارساتي كفعل اجتماعي وتمثل ثقافي سائد بين مناطق متفرقة من الوطن.
من ناحية أخرى، وجب التمييز بين العادة والتقليد والمعتقد و شتان بينها، و عدم التفريق قد يحيل لنفي كل ممارسة اجتماعية وعادة ثقافية سائدة، ما يفرز دون شك طمس التاريخ الثقافي للشعوب من قبل رويبضة رقمية تتداول وتتناول القضايا العامة والخاصة بالنقاش والتحليل دون وجه تخصص أو تحقق.
شهادتي عن احتفالية “ناير” نابعة عن الممارسة الاجتماعية الفردية والجماعية، ومؤسسة على السلوك الاجتماعي المستوحى في الأساس من الذاكرة الجمعية والمخيال الإجتماعي، وليست مؤسسة على منطق التعميم والحكم على معتقدات بدائية هَذَّبـَها الإسلام وحَدَّ من وجودها.
ختاما، وجبت الإشارة أن الفعل الاجتماعي وليد بيئته، يقاس بالأفراد كتكتلات اجتماعية غير موجهة، ولايمت بصلة للتنظيمات التي تحاول إلباس الممارسة الإجتماعية عباءة التاريخ والدين والسياسة. لذا فـ “ناير” لا يعدو أن يكون ممارسة إجتماعية لاحتفالية موسمية ذات أبعاد ثقافية ورمزية تعكس أهمية الأرض وخصوبتها.
دامت الأرض معطاءة لمن يخدمها والعقول مستنيرة بما ينفعا والله شاهدا على نية الفعل والقول …
عام سعيد
Aseggas_ameggaz
ⴰⵙⴻⴳⴳⴰⵙ ⴰⵎⴻⴳⴳⴰⵣ
لكل من جمعتهم الأرض و الثقافة والممارسة.

عن admin1

شاهد أيضاً

تذكروا أن يران غير عربية

كتبت | بلقيس حسن ليس دفاعا عن إيران فأنا اختلف معها في كثير من المواقف، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *