الكاتبة الصحفية مها سالم
الكاتبة الصحفية مها سالم

مها سالم تكتب | الغرفة 202

كتبت – مها سالم | القاهرة:

وعدت ابنتي أن أذهب اليوم لأطمن عليها وخلفت وعدي كالعادة، عجزت عن مغادرة المكان من جديد؛ هل يعقل أني أصبت  برهاب ترك المستشفى؟ بالفعل لم أعد اتحمل فكرة مغادرتي لأبوابها، فخلال ثلاثة أشهر لم أمر عبرها إلا عدد محدود من المرات يعدون علي اليد الواحدة، غالبًا للإطمئنان على ابنتي التي تستعد لامتحان الثانوية ولا تجدني إلى جوارها.

وحاولت خلال تلك الشهور أن أتابع أمور العمل عن بعد ، فهذا هو باب الأمل الذي اتشبث به دومًا واتحدي به أي صعوبات، فعلتها وأرسلت أخبارًا عاجلة من أمام غرفة عمليات قبل اجرائي عملية خطيرة، وكان علاجًا فعالًا، ربما لأني عادة لا أعمل إلّا ما أحب، فأنا أعشق عملي لدرجة أنني أعتبره من الحوافز  التي  تعيدني للحياة، ودومًا أردد أن من عمل مراسلًا لغرفة الأخبار في وقت الثورات، يعلم أن الدقيقة وقت طويل جدًا قد تطيح بأهمية خبر أو انفراد حصري،  لكنني لم أشعر  بأهمية الدقيقة  في حياة إنسان قبل اليوم.

وتأكدت الآن أنني تقمصت نفس مشاعر أبطال فيلم “الخلاص من  شاوشانك”،الذي يحكي قصة السجن الأشهر في العالم والأكثر عزلة وعدت أفكر كثيرًا في جملة مورجان فريمان إلى تيم روبنز “الأمل هو شيء خطير، يمكن للأمل أن يقود الرجل إلى الجنون“، اعتدت كلما سمعت حديثًا يائسًا  أن أتجاهله متعمدة، فلماذا يحرص الأطباء على تذكر الإيمان عندما يتوقف سعيهم، ولا يتذكروه في أنه هو الشافي المعافي وعلينا السعي بالأسباب؟ أعود لأتمسك بتلابيب طيف فجر بعيد، وتتعلق مجددًا عيني بالشاشات والأرقام، حتي اعتدت صوت صفيرها فلم تعد تزعجني، لكن حتمًا أصابتني بنوع من التوحد بحيث لم أعد أجيد التواصل البشري.

ينقذني ابني من أفكاري  وهلاوسي عندما يضع رأسي المنهك علي كتفه، يقويني وجوده، وأعود لأتذكر ما مررت به من تجارب صعبة،  كانت حياتي فيها على المحك مرات، لم أجزع قط، لكنني أكتشفت  أن ألمي الجسدي وقتها كان هين، فليس هناك ما هو أصعب من متابعة دقات وخطوط  وأرقام روح لك في جسد آخر على شاشة .

وعندما أضطر للخروج من شرنقتي الإختيارية، أجد خطواتي متثاقلة، أشعر أن الهواء خارجها خانقًا، أرغب في الصريخ  كطفل يغادر رحم أمه الواسع للدنيا الضيقة، فرغم كونها الظهيرة إلا أنني لم أشعر  بلهيب الحر في الموجة الإستثنائية التي قرأت عنها، إنه الشوق لروحي المعلقة داخل جدران غرفة ٢٠٢ في هذه المستشفى، وتساءلت لم قد  يرغب إنسان أن يغادر روحه بإرادته؟ أشعر بقيمتي هنا لأتابع التفاصيل العلاجية وأربط بين الأطباء في مختلف التخصصات وأرسل لاستشاريين حول العالم؛ لكن الأهم لأكون بالقرب من زوجي كما كنا دومًا.

  وصرت لا أتذكر تحديدًا متى تحول كرهي لتلك الحجرات ولون “الملايات” الخضراء، ورائحة الأدوية والمعقمات، الي أُلفة وونس وأمان، ثم ارتبطت بجدران المستشفي وتفهمت سبب مقولة “هذه الجدران مضحكة، أولًا أنت تكرههم، ثم تعتاد عليهم، ما يكفي من الوقت يمر، لذا فإنك تعتمد عليهم”.

نظرت  شاردة عبر سلك النافذة الذي بدا كحجز اختياري حتى فوجئت  بصوت  “أم ابراهيم” العاملة الطيبة ترغب في تنظيف الحجرة،  يبدو أنها لاحظت علامات الوجوم والذهول تكسو وجهي، فقالت تحدثني “أكتر من كدة ويزيح ربنا، مالناش في نفسنا حاجة، ارمي حمولك على الله، ربنا يشفيهولك ويعينك يا بنتي”.

كلماتها وإيمانها الصادق لمس أوتار قلبي، تلك السيدة البسيطة علمتني درسًا جديدًا، فإذا كانت حيلتي  قد نفذت وعجز صبر الأطباء أمام البحث عن حل، لكن الأكيد أن الله قادر وهو إذا أراد شئ فإنما يقول للشئ كن فيكون.

“يا ربنا يا من لا يعجزك شئ في الأرض ولا في السماء، إرحم روحًا لي في جسد زوجي تتعلق بعفوك ورضاك”.

عن زوايا الأخبار

شاهد أيضاً

الخديوي المديون

بقلم : يحي سلامة استمتعت بقراءة كتاب (محمد علي وأولاده) للأستاذ الكبير الراحل /جمال بدوي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *