بنت الجيران على نهج لولاكي والشبشب

عصام متولي | مصر :
.نتابع من حين لآخر الجدل الذي يدور حول الظاهرة التي تسمى بأغاني المهرجانات بجمهورية مصر العربية لكونها منبع لكل ما هو اصيل ودونه.. صدر قرار للفنان هاني شاكر نقيب المهن الموسيقية بمنع مطربي المهرجانات من العمل في المسارح والملاهي والحفلات العامة ،قبل اندلاع الأزمة التي يحياها العالم حاليا وتفشي كورونا المعروف باسم كوفيد 19. .هناك من ساند مثل هذه قرار النقيب وهناك من وقف ضده.
فمن أعجبه القرار اعتبره انتصاراً للارتقاء بالذوق العام للمجتمع العربي والمصري بشكل خاص، ومنهم من كان ضده من منطلق أن “الجمهور عاوز كده”‘سيبوهم ياكلوا عيش”. .إن عدنا إلى التاريخ فسوف نجد أن في كل عصر وحقبة تاريخية ما سمى حينها إسفاف وانحدار بالذوق العام، فالمطرب والملحن الكبير عبد العزيز محمود قد غنى “يا شبشب الهنا ياريتني كنت أنا”، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب لحن لمحمود شكوكو “بلدى ومدردح وإدارجي واكسب جنيهات وبنيت من الفول والطعمية أربع عمارات”. ووقفت كوكب الشرق أم كلثوم حائلاً لعقود هي وعناصر فرقتها من كبار العازفين والملحنين أمام دخول آلات غربية على تختها الشرقي العتيق إلى أن اخترق عبد الوهاب هذا الحظر بإدخال آلة الجيتار على الفرقة وحذا حذوه بعد ذلك الموسيقار بليغ حمدي عندما أتى بعازف الأكورديون المغمور فاروق سلامة من إحدى صالات شارع عماد الدين ليواجهه بأم كلثوم وفرقتها بالكامل، وأقنعهم على مضض بإدخال تلك الآلة التي كان لها تأثير ساحر على ألحان بليغ ومحمد عبد الوهاب التي شَدَت بها أم كلثوم بعد ذلك وتلتها آلة الساكسفون.
وبعد ذلك بسنوات قام عازف الأكورديون نفسه “فاروق سلامة” والذي صار ملحناً شهيراً باكتشاف المطرب الشعبي الشاب أحمد عدوية بل ولحن له أكثر من أغنية شعبية مثل “سلامتها أم حسن، السح الدح امبو” وغيرها من الأغنيات التي هزت الوسط الفني وقوبلت باستهجان ورفض شديدين وبعدها انكسرت موجة الرفض وأمسى عدوية ضيفا في صالونات كبار الفنانين وفي مقدمتهم عبد الحليم حافظ ،الذي كان يغني له بعض الأغنيات في جلساته الخاصة، بل أن غيرة حليم من نجاح مطرب شعبي مثل محمد رشدي قبل ذلك بسنوات جعلته يستدعي الموسيقار بليغ حمدي والشاعر عبد الرحمن الأبنودي إلى لندن أثناء رحلة علاج ويأسرهما لديه لفترة ليؤلفا له أغان شعبية مستمدة من الفلكلور وكانت ‘على حسب وداد، أنا كل ما أقول التوبة” وغيرها .
ونقفز إلى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي عندما جذبت الأنظار بشدة ظاهرة جديدة وفريدة من نوعها هي ظاهرة عمرو دياب، حيث كان يصفه بعض الملحنين والنقاد آنذاك بـ”الولد اللي بيتنطط عالمسرح”وكانت كلمات أغنياته وألحانها جديدة على آذان المستمعين وحركاته على المسرح غريبة على أعين المشاهدين، فقد كانت رؤيته على المسرح وهو يقفز هنا وهناك جزءاً من متعة الشباب تضفي المزيد من الحيوية على الكلمات والألحان الجديدة كلياً، ومثلت ثورة في عالم الغناء أعطت للأغنية المصورة بُعداً آخر. .بعد ظهور عمرو دياب بخمس سنوات تقريباً ظهر مطرب آخر من أصول بدوية وهو علي حميدة والذي اشتهر بأغنية ذاع سيطها في مصر بل وفي العالم العربي وكان الجميع يرددها وهي أغنية ‘لولاكي” وبعدها بسنوات خبا نجم علي حميدة وتوهج نجم عمرو دياب فالأول لم يستطع أن ينتج أغنية تفوق لولاكي أو حتى توازيها في الشهرة، وبعد تجارب فاشلة توقف علي حميدة عن الغناء، في ذات الوقت الذي توقف فيه عمرو دياب عن “التنطيط”, وصب تركيزه على اختيار الكلمات والألحان التي تعبر عن الشباب وبقى حتى وقتنا هذا يحلق منفردا فوق القمة.
وعلى الرغم من الانتقادات الشديدة التي وُجِهت إلى التجربتين من نوعية أنهما انحدرا بالذوق العام فإن حميدة ودياب لم يُمنعا من الغناء أبدا. والان وقد وصلنا لوجهتنا ومحور تقريرنا نصل وهي أغاني المهرجانات: من يتهمها بالإسفاف فهو يغض الطرف عن تراث مليء بأغاني الفلكلور المصري المعبأ بالإيحاءات والتلميحات من عينة “اتدحرج واجري يارمان، العتبة جزاز، ارخي الستارة اللي في ريحنا” ناهيك عن أغاني الشيخ سيد درويش التي يتغني فيها بالحشيش والخمور.. وكل هذا يطلق عليه تراث ومن يقلده الآن فإنه مسفاً يجب وقفه عن الغناء! .يبدو أن من يتأذى من مفردات أغاني المهرجانات لم تسعده الظروف في أخذ جولة في شوارع المحروسة يسمع فيها ما يؤذي الآذان أكثر من الألفاظ والتعبيرات التي نسمعها فيما يسمى المهرجانات.
لست من هواة المهرجانات ولا من مستمعيها “إلا إذا سمعتها عنوة في الشارع أو الأفراح والمواصلات” ولكني ضد الحملة التي تُشن عليها الآن باسم الفضيلة والارتقاء بالذوق العام، فالمهرجانات نوع من أنواع الفن يعبر عن فئة من المجتمع، تستمع إليه أو بالأحرى تتعاطاه شرائح كبيرة من المجتمع سواء كانت شرائح سنية أو اجتماعية. ولو لم يكن هذا النوع فناً ويَلقى رواجا، ما تراقص على نغماته عِلْية القوم وبسطاءهم على حد سواء في التوكتوك وفي حفلات هايسندا ومراسي.
وأغلب الظن أن شباب المهرجانات يحاول أن يوصل معاناته بأي طريقة حتى لو كانت حنجرته هي أكبر معاناته، يبحث عن اهتمام أو تقدير من المجتمع، يفتش عمن يستمع إليه وينادي ‘محدش سامعني ليه” يشكو غدر الأصدقاء تحت شعار “عالم تعبانة” ويبكي على حبه الضائع فيُنشدنا رائعته الخالدة “بنت الجيران”، التي يعبر عن عتابه لها بقصيدة عصماء تسمى “لأ لأ” لأنها قد مرت من أمامه ولم تلقى السلام عليه. وفي الحقيقة لم أفهم بتاتاً كيف بجرة قلم يتم إلغاء فن له جمهوره ومريديه، وكان من المعقول أن تتحرك النقابة لوقف مطرب ما تغنى بكلمات بذيئة أو بشكل مسيء للذوق العام أو مطربة كانت تقف على المسرح بأزياء عارية، والتحقيق معهم في وقائع معينة، أما أن توقف العشرات من المطربين لتهدئة بعض من جمهور الصفوة هم أنفسهم يتعاطون المهرجانات ويتراقصون عليها في أفراحهم فهذا يعد إجحافاً وتغولاً في استخدام سلطة النقابة. .وفي النهاية نوجه رسالة للفنان  هاني شاكر بصفته نقيباً للمهن الموسيقية مفادها أن اترك شباب المهرجانات للتجربة وللسوق ولذائقة الجمهور، فإما أن يطوروا أنفسهم ويجدوا طريقا لقلوب الجمهور وعقولهم قبل خصورهم، أو تندثر تجربتهم كغيرها من التجارب التي ماتت في المهد. فإذا أردت لشيء أن ينتشر بقوة كالنار في الهشيم فامنعه بشدة.

عن admin1

شاهد أيضاً

المرء سيد نفسه..

تايم نيوز أوروبا بالعربي|شوقي سراج الدين يتمنى المرء  يوصل لمرحلة يكون فيها سيد نفسه وقوي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *