بقلم : عبد الصمد الشنتوف
المكان هو غرب لندن ، هنا بشارع أچوا رود تقطن عدة جاليات أجنبية مهاجرة ، منهم الإسبان ، البرتغاليون ، الأيريش (الإيرلنديون) السود الأفارقة ، والكرايبيين . أما الزمان فهو صيف 1986 ، زمن حكم رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر الملقبة بالمرأة الحديدية . امرأة قوية و عنيدة تحكم بريطانيا .
وسط هذا الشارع تنمو العلاقات الاجتماعية ، تتلاقح الثقافات وتتقاطع المصالح ، أحيانا تحدث مشادات تفضي إلى مناكفات وشتائم على خلفية الأحداث السياسية وكرة القدم . في خضم كل هذا الطيف المتجانس من الأقليات يتواجد بيت المهاجر المغربي مصطفى . بجانبه بيت رجل إنجليزي متعصب يدعى جون ينتمي لحزب المحافظين الحاكم ، يضع على نافذة بيته صورة ملونة للزعيمة ثاتشر وكأنه يريد إغاظة غريمه الإيرلندي في البيت المجاور . أما قبالة بيت مصطفى فيسكن موريس الجاميكي في الطابق الثاني من المبنى .
في الصباح ألتقي بالسيدة تريزا زوجة موريس ونحن في طريقنا إلى العمل . أحييها بتحية الصباح فترد علي بابتسامة ودودة ، نمشي معا وندردش قليلا ، أحدثها عن أحوال الطقس وتحدثني عن أحوال العمل ، وحينما نصل الى محطة “وستبورن بارك” تختفي وسط أمواج غفيرة من الركاب داخل المترو .
تريزا مهاجرة تنحدر من جزر الكرايبي ، امرأة رصينة وأنيقة في الأربعين من عمرها ، تشتغل في إحدى المحلات التجارية بوسط لندن ، سوداء البشرة ، ممشوقة القوام ، عنيدة الطباع ، تمشي في الطريق بخطى ثابتة واثقة من نفسها ، تحدق يمينا ويسارا ، أحيانا ترفع عينيها نحو السماء وكأنها الإعلامية الأمريكية أوبرا وينفري .
السيد موريس مختلف في طبعه وشخصيته عن زوجته تريزا . رجل متوسط الذكاء ، قليل الطموح ، في نهاية الأربعين من عمره ، داكن البشرة ، يعتمر قبعة فيدورا الأمريكية . يمضي طوال يومه يطوف بين محلات القمار والحانات ، وعندما يظفر برهان في سباق الخيول يتحول إلى رجل متحضر ولطيف . يستقيم مزاجه فيبادرني بتحية وديعة ويقول لي : “هالو” فأرد عليه بمثلها “هالو” . مرة يبتسم ومرات أخرى يعبس في وجهي . هكذا هي أحوال المدمنين الذين يتحولون إلى أناس مزاجيين . كان يتعاطى مخدر “الكنابيس” بنهم يفوق الوصف .
أحيانا كان موريس يلوح لي بيديه من شرفة بيته وكأننا صديقان حميمان ، يتكئ بساعديه على حاجز البلكون ويبدأ في الحديث معي من الأعلى : “يا مان” ! هكذا يخاطب الجاميكيون بعضهم بعضا . أنصت إليه باهتمام بالغ ، وأرفع رأسي تجاهه ، أشرئب بعنقي وأنظر إليه بينما يحدثني من أعلى الشرفة وكأنه الزعيم موسوليني يخطب من فوق المنصة . يمسك بلفافة “الكنابيس” بين أصبعيه فيأخذ في شفط الدخان بنهم شديد ، وبقارورة جعة غينيس باليد الأخرى ثم يستأنف الحديث . يسألني عن بلدي وأحوالي وهل أنا من أقارب مصطفى ؟ ، فأرد عليه بالإيجاب ، رغم أنني لم ألتق مصطفى قط في حياتي . إنما هو القدر وحده الذي قذف بي إلى بيته لكن موريس لا يعلم ذلك . ثم يسترسل في حديث الحشاشين ويقول : مصطفى رجل عربي عظيم وجار خدوم ، لقد افتقدته كثيرا ، فأرد عليه : لا عليك ، سيعود من المغرب في نهاية شهر أغسطس .
ذات يوم عرض علي أن أرتشف من سيجارته ، ومن شدة فضولي جذبت منها نفسا عميقا كاد أن يخنقني وكأنني أضع مقارنة بين “الكنابيس” الجاميكي والحشيش المغربي . موريس رجل مدمن على كل الموبقات ويراهن على كل شيء ، يراهن على سباق الكلاب والخيول ومباريات كرة القدم . يتردد بانتظام على محلات “وليام هيل” للقمار باحثا عن ضربة حظ تخرجه من أزمته . خلال الويكاند يجالس الإيرلنديين على عتبات بيوتهم ، فينغمسون في شرب الخمر . يوزع عليهم سجائر “الكنابيس” ، يتناوبون على تدخين لفافات “الويد” . عندما تنظر إلى الجمع من بعيد يبدو موريس وكأنه طائر غراب يتوسط سربا من حمام زاجل أبيض . يسكرون حتى الثمالة فينهمكون في شتم مارغريت ثاتشر بأعلى أصواتهم ليغيظوا جارهم جون الإنجليزي . يرددون أغاني وأشعار الجيش الجمهوري الإيرلندي ، يستشيط جون غضبا فتنطلق من عينيه نظرات حاقدة سوداء وكأنها سهام مسمومة . الأيريش قوم صعاب المراس ، فوضويون وثوريون ، يحبون جيري آدمز ويعشقون بوبي ساند . هذا الأخير يعد أحد رموزهم في النضال والتحرر ، قضى نحبه في سجون ثاتشر منذ خمس سنوات في إضراب مفتوح عن الطعام .
الأيريش يكرهون الإنجليز على غرار كراهية الجزائريين للفرنسيس ، حقد تستحضره الذاكرة ويغذيه التاريخ . جون يغيظهم بصورة ثاتشر على نافذته وأحيانا يطلق النشيد الوطني الإنجليزي من المذياع بصوت عال فيجن جنون الأيريش ويردون عليه بأغنية “بزوغ القمر” ، وهي أغنية ثورية إيرلندية تحكي تفاصيل الصراع المرير مع المستعمر الإنجليزي .
موريس لم يكن يبالي بكل هذا الصراع ، لا شأن له بثاتشر ولا ببوبي ساند . فهو مهاجر مدمن اختزل كل حياته في سباق الخيول ، تدخين مخدر الكنابيس وموسيقى “الريغي” ، إنه الثالوث المقدس عنده .
حينما أمر أمام بيت جون ، أحييه ب”هالو” فكان يرد علي بابتسامة باردة صفراء تظهر القليل من المودة وتخفي الكثير من العنصرية . إنه رجل أبيض متعصب غارق في أفكاره المتطرفة ، يحتقر الأقليات و يكره الأجانب . رجل قومي يحب بريطانيا ويتوق إلى ذكريات الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس . يحب الملكة إليزابيث ، ويعشق مارغريت ثاتشر إلى حد الجنون .
ثاتشر امرأة ليست كباقي النساء ، لقد فتنت العالم بصلابتها وحنكتها السياسية .
أذكر أنني عندما كنت في العرائش أجالس أصدقائي بمقهى ليكسوس مرت من أمامنا الناشطة فضيلة فقام أحد الشباب المتحمس يناديها بتهكم : “هذه هي مارغريت ثاتشر” ! ، فتوقفت هنيهة ، رمته بنظرة ازدراء وردت عليه بثقة زائدة : “قلها وعمر بها فمك” ! أي (قلها واملأ بها فمك) ثم تابعت سيرها .
هذا الحدث كان يفسر مدى شهرة المرأة الحديدية في كل أصقاع الأرض . لاسيما بعدما هزمت دكتاتور الأرجنتين “ليوبلدو غالتري” خلال حرب الفولكلاند وأجبرته على التنحي عن الحكم . كما قادت هجوما عسكريا على مجنون ليبيا مع صديقها ريغان منذ بضعة أشهر مضت .
لقبت باسم المرأة الحديدية وذلك بسبب تطبيقها السياسات الحكومية بحزم وصرامة . كانت تصطدم مع المعارضة اليسارية لحزب العمال داخل البرلمان ، فتقف تخطب في حشد من الرجال وكأنها عنترة بن شداد . ترميهم بأقدح الصفات وتنعتهم ببيادق موسكو . عند ذروة غضبها كانت تخرس البرلمانيين بلاءاتها الثلاث ( نو نو نو ) لا لا لا . امرأة منحت من الذكاء والحكمة ما لم يمنح لكثير من الرجال ، حاكمة شرسة وعنيدة سيذكرها التاريخ . إنها المرأة التي يستلهم منها جون قوته واعتزازه .
كانت الساعة تشير الى التاسعة ليلا .
بدأ الليل يرخي سدوله ، صياح قوي يتناهى الى أذني من بيت موريس ، قررت استطلاع الأمر عبر النافذة . شجار عنيف يدور بينه وبين تريزا ، لم تعد تريزا تستحمل حماقات زوجها المدمن ، فالرجل عندما يبدد أجرته على رهان سباق الخيول يصاب بسعار يفقده صوابه . فيلجأ الى زوجته ليبتزها ويعنفها ليحصل على قسط من المال يشفي به غليل إدمانه المرضي . هذه المرة تريزا تعنتت ورفضت أن تمنحه المال ، فقام موريس بتعنيفها وإهانتها . غضبت تريزا وواجهته بصلابة ، لطفح كيلها من هذا الرجل العربيد ، فقامت بطرده من البيت وألقت بملابسه في كيس بلاستيكي أسود من الشرفة المطلة على الشارع . بعد لحظات حلقت بدلة سوداء في السماء وكأنها طائر الشحرور يسقط على الأرض ، ثم ألقت بحذاء أسود سميك من نوع “د. مارتن” من أعلى الشرفة كاد أن يشج رأسه . بدا موريس ذليلا يتوسل زوجته أن تعيده إلى البيت . يصرخ ، يعتذر ، ويبكي في آن واحد .
يراقب سكان أچوا روود هذا المشهد البئيس عبر النوافذ وشرفات البيوت ، لكن تريزا لم يرق قلبها له هذه المرة لأنه تجاوز كل الحدود . لم تشفق عليه ، لقد تعبت من إدمانه ولم تعد تطيق معاشرة زوج مدمن أحمق . حاول جارهما الإفريقي أن يصلح بينهما ويستعطف تريزا لكي تعيده إلى البيت لكنها أبت أن تغفر له ، كان الغضب قد بلغ مداه داخل قلبها وازداد ضراوة بعدما أهانها وضربها . كانت تصرخ بأعلى صوتها : سأتصل بالشرطة إن لم تغادر على الفور ، فلتذهب إلى الجحيم أيها الوغد الحقير .
فجأة حلقت بذاكرتي إلى زمن بعيد عندما كنت طفلا صغيرا في العرائش . كنت أرى جارنا بوشتى يصيح ويضرب زوجته خدوج في حي جنان قريوار . تظل المسكينة تستغيث بأعلى صوتها ولا من مغيث . كان يوجعها كثيرا بلكماته ، بوشتى مفتول العضلات وقوي البنية ، عندما يطفح سكره يأخذ حزامه الجلدي فينهال عليها بالضرب وكأنه جلاد نازي . أحيانا كنت أسمعه يكسر أواني المطبخ بشكل هستيري مثل ثور هائج ، يصيح كالمجنون : اخرجي عني ، اخرجي عني ، فيطردها من المنزل ويغلق الباب بقوة .
تجلس خدوج على عتبة الباب تبكي وتندب حظها مع هذا الزوج الوحش ، تستعطفه وتستجديه “هانا مزاوكا ، هانا مزواكا” ( أرجوك ، أرجوك ) . كانت المرأة تنحدر من عائلة فقيرة بإحدى المدن البعيدة ، فيتدخل الجيران كوسطاء خير وإصلاح ، يستعطفون بوشتى ويقبلون رأسه بغية استرضائه ، يشعر بنشوة المنتصر على امرأة مغلوبة على أمرها بعدما يمرغ كرامتها في التراب . يمشي في الشارع بين الجيران جيئة وذهابا ، يمسك بحزامه اللعين وهو كله استعلاء وعجرفة حتى تظنه عتبة بن ربيعة يؤدب عبده المتمرد . من يجرؤ أن يوقف بوشتى عن غيه وظلمه ، لا أحد ؟ ! . نكتفي بالفرجة ونرقب من بعيد ما ستؤول إليه الأمور بعد توسلات الجيران . تنهض خدوج ذليلة ، مطأطأة رأسها ، مكسورة الخاطر فتعود إلى البيت بعد أن يعفو عنها زوجها الصلف . كان مشهدا حزينا يتجدد بنفس الطريقة كل مرة وهكذا دواليك .
حضر رجال الشرطة ، دخلوا بيت تيريزا لتقصي ما حدث ومعاينة آثار العنف على جسدها ، بعدها اعتقلوا موريس وأدخلوه سيارة الشرطة متأبطا كيسه الأسود وكأنه شحاد متسول ، ثم انطلقوا به مسرعين إلى المخفر لاستكمال التحقيق .
هنا بأشمور رود تعلمت أشياء كثيرة . تعلمت كيف تأخذ المرأة حقها عندما تهان وتكون ضحية عنف أسري ، تعلمت كيف تذوب الفوارق بين الأقليات رغم اختلاف اللون والدين ، كما تعلمت كيف يدار الصراع السياسي بين فرقاء متنافرين برباطة جأش . والأكثر من ذلك أدركت أن بلاد الإنجليز تحكمها امرأة حديدية بسلطة الحق والقانون ، قانون يسري على موريس كما على الجميع . بينما في الضفة الأخرى هناك ، رجل عربي يحكم بقبضة من حديد بسلطة قانون لا يحفظ كرامة خدوج ، لأنه قانون فصل على مقاسه ومقاس بوشتى .