الممثلة إنتصار

إنتصار : النوة | امرأة هزمتها الدنيا ولا تُريد الاعتراف بالهزيمة

كتب | محمد محمد مستجاب

النَوّة؛ في أحوال الطقس هي ظاهرةٌ مناخية يحدثُ فيها هبوبٌ شديدٌ للرياح مما يُثير اضطراب مياه البحر، وتشمل أمطارًا غزيرةً يتبعها سيولٌ وارتفاعٌ في موج البحر، وهي ظاهرةٌ طبيعيةٌ مُرتبطةٌ بتغيرات الطقس وفصول السنة، وهكذا قفزت الفنانة ” انتصار” من بين أبواب التغيرات المناخية، لتثير في وجوهنا الأمطار والرياح ولتصبح أحد النوات السينمائية التي اخترقت حياتنا وشاشتنا في السنوات الأخيرة.

بتلك الطاقة البحرية ورذاذ الأمطار المقلق والرياح شديدة البهجة تلعب انتصار على سطح شاشتنا، محملة بالأداء الخاص بها وببصمتها الطبيعية الخاصة، رغم إنها لم تكن بطلة أحد الأفلام أو المسلسلات، لكن هذا لا يهمها ولا يهمنا أيضًا، المهم أن تضع بصمتها بصفتها ابنه أمواج ورياح بحر الإسكندرية الذي يتبدل كل عدة لحظات، ومع ذلك لا نستطيع أن ننساه أو نخشاه مهما ذهبنا إلى جميع الشواطئ واستمتعنا بالكثير من الأمواج وضربت وجوهنا وأيام حياتنا الكثير من الأعاصير، لكن يظل بحر الإسكندرية بأمواجه هو الأثير لدينا. كما تظل تلك النوة السينمائية التي تسمي “انتصار” هي الأثيرة لدينا.

منذ البداية عندما اكتشفها المخرج الراحل” رأفت الميهي” في أفلامه ” تفاحة” و” ست الستات”، لكن في رائعته ” قليل من الحب كثير من العنف”، أطلت ” انتصار” علينا بدور قصير لكنه يظل عالقًا بالذهن، لتردد تلك العبارة في كل ظهور لها ” هنية بعد الفطار أحسن”، وكأنها فنجان قهوة يعدل المزاج أو كوب شاي يجب أن تحتسيه كي ” تحبس” الأكلة، وليظل ترددها لتلك العبارة كإعلان لننفجر في الضحك ويعلق بالذاكرة سريعًا.

ولأن العين الفنية الخبيرة استطاعت أن تجد في انتصار الموهبة الحقيقية، فقد قدمها المخرج ” شريف عرفة” في فيلمه المميز ” النوم في العسل”، كسيدة تعاركت مع زوجها، ولتقف ” انتصار ” فجأة أمام حشد أمتلئ بالكثيرين وأمام العملاق ” عادل إمام”، لكنها تؤدي دور أحدي نساء الشعب، والتي تظهر لحظات لتقول جملتين ” أصل الواحد وهو زهقان يعمل أي حاجة”.
كانت ” انتصار –” تلك المرأة التي تعاركت مع زوجها – سليمان عيد- لتقصيره في أدائه مهامه الزوجية، لكن انتصار ابنه العشرينات لخصت

جزء كبير من المشكلة في جلبابها المزهر، لكن وجهها يظهر ” البوز المصري العظيم للمرأة”. لتلخص القضية، بحالة زهق انفجرت لتعود لحياتها.

انتصار المولدة في عز برودة يناير، استطاعت أن تضيف إلى حياتنا “نوة” جديدة باسمها، ننتظرها ولا نخشاها. كنوة تكتسح شواطئنا الهادئة فجأة، دون ميعاد وفي عز حرارة الصيف، نوة جعلتنا نستيقظ على تلك المرأة التي تقف بجوار زوجها المخذول والمنكسر في ساحة القسم وتنظر لرئيس مباحث العاصمة، ” عادل إمام” لتخبره بالستر وأنه ياما يحدث في البيوت، تلك البيوت الهادئة والتي تبحث عن الطمأنينة، لكن انتصار جاءت في مشاهد قليلة تفجر العالم حولها، وكان فيلم ” سهر الليالي” لتظهر كنوة حقيقية لا تنسي، وكفتاة ليل لم نراها من قبل، نبحث عنها، لنقوم باصطيادها، ونتعاطف معها ومع معانتها، تبدو حقيقية جدًا، لكنها عندما تدخل فرن حياتنا تدمر راحته.

لذا تعتبر البصمة الكبرى لانتصار في فيلم ” سهر الليالي” الذي حشد بالكثير من النجوم، لكنها كانت “طبق المخلل والطرشي” الذي فتح نفسنا لمشاهدة فيلم ممتلئ بالكثير من النجوم والعلاقات الإنسانية الشائكة، ومن خلال مشهدين أو ثلاثة استطاعت أن تسرق الكاميرا منهم، ولا يزال حتى الآن، مشاهدها كفتاة ليل يتم جذبها من ناصية أحد الشوارع في شتاء الإسكندرية هي فاكهة هذا الفيلم المميز في تاريخنا السينمائي، خاصة وهي تقول لأحمد حلمي” كازم ده عسل، سمعتله يا مستبدة”.

لقد جعلتنا انتصار نقلدها في هذا المشهد، وننتظره لننفجر في الضحك، لكن عندما تقلب لك وجهها يجب أن تراها في فيلم ” ولاد العم” أنها اليهودية المتزمتة، جادة وحادة ولا تطاق، تذكرك بالممثلة الرائعة “ملك الجمل” في فيلم ” الشموع السوداء”، أنها الجارة ل ” سلوي- مني زكي”، وقد ظلت تلعب دور الجارة الطيبة التي ترسم على وجهها البراءة، لتنقلب في لحظة إلى المرأة الإسرائيلية الحادة التي تراقبها ولتظهر كراهيتها وعدواتها، وكأنها تحمل لنا كل كراهية اليهود في لحظة فنية مميزة.

هكذا أطلت علينا انتصار عبد الباسط المولدة في الإسكندرية عام 1971، كفتاة طامحة أو ست بيت متذمرة أو عدوة قاسية بجسد مصري حقيقي وكأنه خرج من لوحات محمود سعيد وملفوف بألحان سيد درويش.

انتصار،: جسدها يغني، منطلق بالألحان، صاخب، وأكثر صخبًا في الأدوار التي تبحث عنها، في دور ” هدي-الأم” بفيلم “واحد صفر” ظهرت حقيقتها كأم لأحمد الفيشاوي، وكلصه – تتحايل على الحياة- من أجل لقمة العيش ومن أجل أن تسير أيامها الصعبة كمطلقة وامرأة ذات تاريخ سيء السمعة، فتسرق في ” الحلاوة” التي تبعيها للنساء في تجهزيهن ليلة الزفاف، ثم يأتي المشهد الخالد، مشهد الحرمان والشبق في أتوبيس النقل العام، أن انتصار بهذا المشهد لخصت كثير من أحمال المرأة المصرية ولتعلن نهاية الطبقة المتوسطة وتلاشيها تمامًا، أداءها في هذا المشهد بين الرغبة والرفض دون أي مبالغات، فهي وسط كل سعيها خلف ابنها وجريها وراء لقمة العيش، لم تنسي أنها أنثي دخلت المرحلة الأخيرة من عمرها، أي سن الخمسينيات، تحتاج ليد تلمس جسدها، أنها سيدة لا تزال تبحث عن الجنس المفقود ، نجدها ترتدي الإيشارب الذي يظهر منبت الشعر أو جزء من شعرها الأصفر المائل للبني بسبب الحناء الذي يصبغه، أنها أنثي تريد بعض الدفء لجسدها، وأنثي تطلب حقها في الحياة.

لكن في نفس اللحظة يظهر الرفض، عندما تتحول المداعبة إلى اغتصاب، فتتحول إلى قطة تخشي على شرفها وتخشي أن يتم نهش جسدها حتى لو كان – المتحرش – بها أشباه رجال. فالجميع محطم مثلها والجميع منكسر أيضًا.

إن أمومة انتصار هي أمومة الطبقة الكادحة التي نراها كل يوم، معبرة عن المرأة المصرية التي نراها وهي تركب التوك توك ثم تقفز في ميكروباص، ثم بعدها تجلس لتضع القرش على القرش ليصير مبلغًا تافهاً في جمعية شهرية، تجمعها، حتى تستطيع أن تسدد ثمن أي شيء في بيتها، كشراء فستان لابنتها أو إصلاح غسالة، أنها مرادف لرمادية الحياة، وللبؤس الحقيقي والجوع المصري الخالد، هي فردة حلق ذهبي مفقودة سقطت من أذاننا دون انتباه، لكن يجب أن يكون متواجد حتى لو كان ذهب قشرة أو صيني لإكمال زينة أيامنا.
تبدو لنا انتصار، كلغم أرضي يريد أن ينفجر في المعركة المناسبة، فخاضت معارك كثيرة على الشاشة كي تثبت تألقها وتوهجها، فلا يزال

دورها على الشاشة الصغيرة في مسلسل ” يتربي في عزو” عالقًا في الذاكرة، أنها الأم الخادمة والمغلوبة والمُطلقة، كانت جزء من شخصية ” أمينة وسي السيد” التي دخلت المتحف منذ زمن، لكن انتصار تخبرنا أن أمينه موجودة، فنراها بقوة في هذا الدور الذي يبدو إن ابن الباشا – حمادة عزو- يحيى الفخراني – قد ألتهمه ذات يوم ثم نسيه، لكن ابنه – أحمد عزمي- لم ينساه، لكن الأم لم تلقي به في صفيحة القمامة كالأب، بل قامت بتربيته أحسن تربية، إلى أن جاء وقت الحساب.

لقد اخترقت انتصار بهذا الدور الزمن لتجذب لنا تاريخ المرأة والحرملك، ولتعلن أن المرأة في داخلها قامت على تربية ابنها في الأساس، لذا جاءت شخصيتها المرادفة لهذا الدور في مسلسل” ذات” في دور ” فوزية” وهي أم ” ذات – نيلي كريم”، لتذكرك تلك التي الشخصية بقوتها وشكلها بأفلام الايض والأسود، كأم تتحكم في حياة ابنتها، ورغم تعاقب الأعوام عليها، فأنها تلخص حياتنا من التحرر ثم الحجاب ثم الرداء الأسود الذي ترتديه الجدات الآن، و تلعن لنا في النهاية إنه لم يتبقى منها إلا اللون السود كلون أيامها وكأنها ملخص للمرأة المصرية التي توالت عليها الأحداث شديدة القسوة في السبعين عامًا الماضية.

انتصار ابنه الإسكندرية، التي تستطيع بمشاهد قليلة أن تغير طقس عقولنا، وتبديل فصول حياتنا، من الحزن للضحك، ومن العبوس للابتسامة

والضحكة المنطلقة. وتستطيع أن تجعلنا ننفجر في الضحك بحركة من جسدها أو نظرة من عيونها أو أفيه تلقيه بفمها كمدفع كلمات متطايرة.
مثل دورها في فيلم ” أبو علي” أو فيلم “جاي في السريع” أو مسلسل “راجل وست ستات” بأجزائه، ورغم إن البعض قد حاصر الفنانة ” انتصار في الأدوار الكوميدية، لكنها استطاعت أن تضيف بصمتها سواء بطريقة ألقاءها أو بالتعبير بجسدها، فستظل الكوميديا الفخ الذي يكشف أي ممثل، فليس من السهولة وضع بصمتها في جيل معظمه يبحث عن بصمه كوميدية خاصة به.

أن انتصار تضع بمشاهدها السينمائية القليلة، شهادة توثيقية لتاريخ الأنثى المصرية، بنماذج عن شرائح للأنثى في مصر خلال المائة عام الماضية، دون صراخ ودون مباشرة، ترصد ببساطة حالة قهر الأنثى والشعور بانعدام الأمان رغم كل مقومات الحياة حولها، أنها الأصابع الحانية في دور الأم، وعصا الغلية في دور الجدة، وطبق الفاكهة في دور العانس.

انتصار امرأة هزمتها الدنيا، ولا تريد الاعتراف بالهزيمة، لذا تستمر في نواتها لتقدم لنا معني الجوع ومعني الأنثى المنهوشة ومعني الزوجة المقهورة ومعني المرأة الذي يضع عليها الزمن تقلباته وبصماته كما تضع النوات تقلباتها وبصماتها على جسد شواطئ حياتنا.

عن غرفة الأخبار

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

شاهد أيضاً

سراج الدين يكتب|مُنخفض القطارة

تايم نيوز أوروبا بالعربي|شوقي سراج الدين  اعتقد ان كل ما تم كتابته عن هذا المشروع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *