ياسر الزيات | الصحافة مهنتى الى الأبد

بقلم : ياسر الزيات

كانت الساعة السابعة مساء تقريبا، وربما كان اليوم أحدا أو أربعاء، وربما كان الشهر نوفمبر أو ديسمبر من عام 1988.

دخلت من ذلك الباب الحديدي الواسع المرتفع، ماشيا على قصاصات ورق كأنها سجادة بيضاء فرشت خصيصا لاستقبالي، رغم انها كانت ملطخة بالكثير من آثار الأقدام المبللة بالمطر في الخارج. ومن الداخل، مع كل خطوة أخطوها، كانت رائحة الأحبار المختلطة بروائح الورق تسحبني إلى الأعلى، عبر سلم حديدي مفروش بقصاصات الورق أيضا، في اتجاه جسر حديدي معلق فوق ماكينات الطباعة.

وعندما نظرت إلى أسفل، حيث تختلط أصوات العمال بهدير الماكينات اختلاط الحبر بالورق، في لحظة ما من ذلك الزمن البعيد، أخذت نفسا عميقا مشبعا بتلك الروائح، وقلت لنفسي إن هذه ستكون مهنتي إلى الأبد: الصحافة.
لم تكن الصحافة واردة ضمن أي مخطط لمستقبلي، وأنا أدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة، بل إنني لا أبالغ إذا قلت إنني لم أكن أحمل تقديرا كافيا لهذه المهنة، أو إنني كنت أراها أقل من أن أعمل بها يوما من الأيام.

والحق أقول إنني لم يكن لدي تصور واضح لمستقبلي بعد التخرج، لكنني كنت أتمنى أن أصبح مقدم برامج، أو قارئ نشرة أخبار في الإذاعة المصرية، وهو حلم كان بعيد المنال لأن دخول مبنى ماسبيرو كان يحتاج إلى “واسطة” كبيرة، أو هكذا كنت أتخيل في ذلك الزمان.

ظل هذا العمل حلما معلقا، إلى أن وجدت نفسي في تلك الليلة، للمرة الأولى، وسط أجواء المطبعة السحرية، فتخليت عن الحلم تماما، واخترت هذه المهنة ذات الروائح العجيبة، لكي أقضي فيها عمري كله تقريبا.
أي مصادفة قادتني إلى هذا العالم الذي لم أحسب له حسابا؟ يقولون إن الصحافة هي مقبرة الأدباء، وإنها تقضي على مواهب من يعملون بها من شعراء وروائيين، لأنها تستهلك لغتهم وتستنزف طاقاتهم. لم أقابل أحدا إلا حذرني من سطوة الصحافة وقدرتها على قتل المواهب، حتى أنني صدقت ذلك، واعتبرته نوعا من المسلمات غير القابلة للنقاش.

ولكن، هل كان لي أن أختار العمل في هذه المهنة؟ هذه مهنة لم أخترها، ولم تكن بالنسبة لي إلا وظيفة تنقذني من التشرد في شوارع القاهرة والنوم على سلالم بيوت أصدقائي إلى أن يعودوا من سهراتهم، أو النوم في المساجد والحدائق العامة.

هذه هي الوظيفة التي ستوفر لي نصف سرير يحميني من السؤال اليومي القاتل: “أين سأنام هذه الليلة؟”. هذه هي الوظيفة التي ستصون كرامتي دائما، وتنقذ الشاعر من مهانة الجوع والتشرد، وتوفر له الحد الأدنى من الحياة الكريمة التي تمنحه القدرة على الاستغناء، وتساعده على الإبداع.
ولم يكن يوم المطبعة هو يومي الأول في عالم الصحافة بالطبع.

ففي يوم 18 سبتمبر 1988، دخلت إلى البناية رقم 1117 كورنيش النيل، تلك البناية الصغيرة بين فندق هيلتون رمسيس ومبنى دار المعارف، البناية التي تضم في طابقها الأول مقر مجلة الإذاعة والتليفزيون، حيث ذهبت لأودع أستاذي وأبي الثاني خيري شلبي، وأخبره بأنني قررت العودة إلى بلدتي في سوهاج، وأن أعمل مدرسا للغة الانجليزية، وأكمل بقية حياتي هناك، بعيدا عن قسوة القاهرة، فأنا “ابن ناس، ومش حمل بهدلة”. ذهبت مودعا، فأصبحت مقيما، ليس في هذه المجلة فقط، بل في هذه المهنة التي أحببت، المهنة التي غيرت لي حياتي، وكان لها تأثير ليس على شخصيتي فحسب، ولكن حتى على لغتي في الشعر. في 18 سبتمبر 1988، ولد نصف ياسر الزيات الآخر، النصف الذي يعمل صحفيا، ليكمل النصف الذي يعيش شاعرا.

من هنا كانت البداية، من النقطة التي تحول فيها الشاعر المتشرد إلى صحفي على غير رغبته، قبل أن تتحول المهنة التي لم يخطط للعمل بها إلى إدمان حقيقي، وحب خالص. باختصار: أنقذتني الصحافة من التشرد غريبا جائعا في شوارع القاهرة، وكان علي أن أرد لها الجميل، لكنها كانت دائما أكثر كرما مني، إذ أعطتني فوق ما أستحق ماديا ومعنويا.

عن غرفة الأخبار

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

شاهد أيضاً

الخديوي المديون

بقلم : يحي سلامة استمتعت بقراءة كتاب (محمد علي وأولاده) للأستاذ الكبير الراحل /جمال بدوي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *