لــمـاذا أحَــبّ الـمـصريّــون جــمـــال عـبـد الـنّـاصـــــر؟(2)

بقلم: سامي شرف | مصر
لقد كان لجمال عبد الناصر صورة جماهيرية طبيعية وغير مصطنعة، نفذت إلى قلوب الجماهير العربية ووجدانها فى أقطار لم يكن لعبد الناصر سلطان عليها، بل لقد كانت بعض حكوماتها تسعى للقضاء عليه وعلى صورته فى وجدان الشارع والناس.
إن الصورة الطبيعية والجماهيرية للرجل لم تكن نتيجة جهود خبراء ولا كانت حصيلة دراسات او ابحاث، إنما كانت نابعة من ارتباطه بتراب هذا الوطن الذى جسده فى شخصه حتى أصبح هو ذاته مادة مثالية لدراسة حالة نادرة من تحليق صورة الزعيم السياسى فى آفاق لم يسبق أن وصل إليها أحد حتى الآن.
ولقد رويت فى شهادتى سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر الكتاب الأول قصة كان احد اطرافها التلميذ جمال عبد الناصر والطرف الآخر والده عندما وجده يحفر الأرض أمام المنزل فى الخطاطبة فنهاه الوالد وانصرف ولكنه عندما عاد من عمله وجده ما زال يحفر ولما سأله عن السبب كان رد جمال: عايز اعرف ايه اللى جوة الأرض اللى بيقولوا لنا انها اصل كل شيء..
إن ارتباط جمال عبد الناصر بالأرض وتراب الوطن هو احد اسباب صياغة صورته الجماهيرية.
فى يوم 26 اكتوبر1954، وفى ميدان المنشية بمدينة الاسكندرية، وبعد ان انطلقت ثمانى رصاصات في سماء الميدان نحو صدر جمال عبد الناصر، ظل الرجل واقفا صامدا متحديا الاغتيال ومتحديا القاتل، ووسط دوى الطلقات استمر جمال عبد الناصر قائلا للجماهير المحتشدة في الميدان: ” فليبق كل فى مكانه.. فليبق كل فى مكانه.. إننى حى لم أمت، ولو مت فإن كل واحد منكم هو جمال عبد الناصر.. ولن تسقط الراية”.
كان هذا الموقف التلقائى الذى بادر به جمال عبد الناصر إنما يعبر عن صورة جماهيرية ناجحة بكل المقاييس تعبر عن موقف الرجل والجماهير فى نفس الوقت، وهى هنا تستند إلى أساس من القناعة الراسخة بعظمة الجماهير التى يسعى لقيادتها وأمله فى إمكانية تحقيق مستقبل مبشر ومشرق لهذا الشعب. فالذى يؤمن بقاعدته تؤمن القاعدة به. وبدون هذا الإيمان المتين بالقاعدة الجماهيرية التى سيتفاعل معها الزعيم لا يستطيع أى عدد من الخبراء، مهما كبر وعظمت قدراته، أن يخلق صورة إيجابية لرجل السياسة لدى الجماهير أو فى الشارع بشكل عام، وإن استطاع هؤلاء الخبراء ذلك لفترة محدودة فسرعان ما سيكتشف رجل الشارع العادى بفطرته زيف هذه الصورة وحقيقة ازدراء الزعيم له، أو عدم إيمانه بقدراته الخلاقة وبالتالى انعدام أمله فى تحقيق المستقبل الواعد والمبشر والمشرق.
ويرتبط بهذا شرط آخر لا يمكن فصله عنه، وهو أن يكون لدى الزعيم تصور لدوره فى قيادة الشعب إلى المستقبل الواعد والمشرق لأن هذا سينعكس فى النهاية على صورته الجماهيرية بحيث توحى للجماهير بأن هذا الرجل بعينه هو الذى يستطيع أن يوصلها إلى الغد المشرق الواعد الذى ينتظرها.
هذان الشرطان المسبقان لخلق صورة جماهيرية ناجحة هما فى حقيقة الأمر معيار رئيسى لاختبار ما إذا كان رجل السياسة يملك فى الأصل مقومات الزعامة أم لا.
فكم من قائد أو رئيس ولد وعاش ومات دون أن نسمع به أو نرى له اثرا جماهيريا ذلك لأنه لم يتمكن من أن يقوم بدوره لافتقاره إلى تلك الصورة الجماهيرية.
وفى هذا المجال يقول الدكتور أنيس صايغ:
إن أعمال الزعيم هى رأس المال الذى يستعمله فى مضاربات السياسة، لكن حساب الزعامة ليس مجرد قائمة بالواردات والصادرات والأرباح والخسائر. والجماهير صاحبة القرار الأخير فى مصير الزعامة ليست دماغا إلكترونيا يحكم على الأعمال حكما تلقائيا لا عاطفة فيه ولا يخضع لمؤثرات شخصية. لا تقوم الزعامة على الأعمال فحسب.. مطلوب من الزعيم فى سائر الزعامات وسائر الشعوب ــ حتى الذى بلغ أرقى درجات الرقى ــ أن تتوافر فيه صفات خاصة تؤثر عادة فى الجماهير إلى جانب الخدمات التى يرى الشعب فى قيام الزعيم بها تحقيقا لذاته ومصالحه”.
وإذا نظرنا الآن إلى جمال عبد الناصر فى ضوء هذه القاعدة التى تنطلق منها أى صورة جماهير…

*(توفّي سامى شرف مدير مكتب الزعيم الراحل جمال عبدالناصر يوم الإثنين، 23 يناير 2023، رحمهما الله.)

عن غرفة الأخبار

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

شاهد أيضاً

الخديوي المديون

بقلم : يحي سلامة استمتعت بقراءة كتاب (محمد علي وأولاده) للأستاذ الكبير الراحل /جمال بدوي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *