الشعراء: من اليمين لليسار | محمود قرني - أسامة جاد - موسى حوامدة

الشعر والفلسفة علاقة جدلية.. وروعتها

القاهرة : طارق سعيد أحمد

تنافس الشعراء والفلاسفة في اكتشاف العالم، منذ آلاف السنون، وأثارت العلاقة الجدلية بينها الكثير من الاشكالات الفكرية، التي غالبا ما تعبر عن الحقب التاريخية وتطور أفكار الإنسان، وبالتالي ألهبت تلك العلاقة الكثير من العقول العابرة على صفحات التاريخ مازاد من توتر الجدلية بين الشعر وعلم الفلسفة، ودفع هذا الاهتمام بوضع الخطوط الفاصلة بينهما وراكم إرث فكري جدير بالدراسة والتأمل
في هذا الاستطلاع واجهت اشكالية العلاقة الجدلية بين الشعر والفلسفة بالنقاش حولها من وجهة نظر هم

طارق سعيد أحمد

 

الشاعر أسامة جاد
من امرئ القيس إلى إليوت

على مدار تاريخهما الموغل في النتاج البشري ظلت الفلسفة وظل الشعر يعالجان أسئلة تختلف لدى واحد منهما عن الآخر.

فبينما رواحت الفلسفة سؤال الماهية في معرفة الوجود، داول الشعر سؤال الأثر الجمالي، بوصفه واحدة من الفنون، أو هو والدها جميعا بالنظر إلى أن المسرح كان شعرا بالأساس.

وفيما ناقشت الفلسفة الكليات والأطر الناظمة لمفهوم الماهية والكينونة والوجود والعدم، اعتنى الشعر بالجزئيات، بالتفاصيل الصغيرة، والأحداث الآنية.

وبصورة ما، يمكننا أن ننسب الفلسفة، مثلها مثل المنطق، إلى العقل، يمكن بشيء من المجاز أن ننسب الشعر إلى الروح أو القلب بالمعنى المعنوي.

وفيما اعتنت الفلسفة بتفسير العالم، وفق متخيل تصويري، اعتنى الشعر بالمثل والحكم اليومية والخبرات النسبية والمشهديات.

وبينما اعتنت الفلسفة بالإدراك الجمعي، نهل الشعر من معين الذائقة الفردية، حتى وإن استخدم الوصف الذائع والعروض الشائع.

غير أن التاريخ لم يعدم شعرا يجنح إلى الفلسفة، كما لم يعدم نصوصا فلسفية تم نظمها في قالب الشعر، بل كان علم الجمال بمفهومه الكلي فلسفة في ذاته، جمع بين الفلسفة بمعناها الأوسع وبين الفنون جميعا في منظور استاطيقي ينتمي إلى ما يمكن أن نسميه الفؤاد، الذي يجمع بين العقل والروح معا.

لقد كان أبو العلاء المعري محطة فلسفية كبرى في ارتحال الشعر العربي عبر التاريخ، يملك وعيا وجوديا يقارب الطرح الذي قدمه سارتر مع شيء من العدمية، على سبيل المثال، بل ويكاد أبو نواس يملك رؤية تخصه لفحوى العالم، مفهوم اللا منتمي المطروح حديثا لدى جاستونباشلار.

غير أن الشعر في تاريخه القديم ظل مشغولا بسؤال البقاء عبر تقنيات متنوعة في مقدمتها الغنائية، وغلب التخييل عليه على حساب الحقيقة بالمفهوم الوجودي والفلسفي.

فواحدة من المقولات العميقة في الشعرية العربية عبر تاريخها الضارب في القدم كان تعبير “أجمل الشعر أكذبه”. غير أن تتبع فكرة الكذب الشعري، أو هي المبالغات

الشاعر أسامة جاد

الشعرية، وركيزتها المجاز، يكشف أنها لا تصمد دائما أمام مقولات أخرى ذائعة، ربما كانت أكثرها ذيوعا أن “الشعر ديوان العرب”.

إن فكرة “الديوان” في تلك المقولة ترتكز على الجذر اللغوي “دوّن” وهو الجذر الذي يتعلق بالكتابة/ التدوين كفعل، في زمن كان الغالب عليه الشفاهية في معظم عصوره قبل الإسلام، وبعده حتى حين. وبين كذب الشعر، الجميل، ومبالغاته التي تجاوز المنطق من مثل (فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل) في وصف امرئ القيس لليل، وبين صدقه التدويني في ذكر الحوادث والتواريخ (فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم/ يمينا لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم/ تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم) كما جاء في معلقة زهير بن أبي سلمى عن حلف الفضول، بين الماصدق والمفهوم -بالمعنى الفلسفي- شق الشعر نهره عبر الـ1600 عاما، مراوحا بين انتصاره للحقيقة/الحدث/الواقعة التاريخية/الماصدق، من زاوية، وبين انتصاره للمجاوزة/الاختلاف/الكذب بالمفهوم التشعيري، من جهة أخرى,

وفيما حكمت “ديوانية” الشعر أسئلة الصدق الواقعي على مستوى الحقيقة التاريخية، راوح “كذب” الشعر الجمالي أسئلة الاستاطيقا بمفهوميتها التي تتخلى عن سؤال الصدق إلى سؤال الجميل. وصح مع سؤال الجمال قبول الجمال بما هو جميل، بغض النظر عن صدقيته أو كذبه.

غير أن سيادة التدوين في عصور لاحقة سحبت من الشعر وظائف “ديوانية” ظل مشغولا بها في تاريخه الأول، لصالح مؤسسات كاملة بما سمح للشعر بالخروج إلى الغابة والبحث في أسئلة الماهية والوجود، كما ظهر ذلك في نصوص خالدة من بينها “الأرض الخراب” لـ تي إس إليوت، وأسئلة الموت والوجود كما في “أوراق الغرفة 8” عند أمل دنقل، أو “فاصلة إيقاعات النمل” عند عفيفي مطر، “وجدارية” محمود درويش.

وفي تصوري أن النصوص الأحدث لشعراء أجيال التسعينات والألفية الثالثة من ملامحها الرئيسة هذا النزوع الفلسفي، غير أنه يظل بعيد عن مفهوم كلي للفلسفة، بقدر ما هو شذارت من تقاطع اليومي بأسئلة الوجود الإنساني في منظورها الشخصاني الفردي.

الشاعر محمود قرني
الفلاسفة المسلمون كانوا أجدر بموقع الناقد من أصحاب نظرية الأدب.
عن الشعر والفلسفة أتحدث.

ليس ثمة إجابة يمكننا استلهامها ضمن تساؤلات الشاعر العربي منذ حركة النهضة عن تحولات القيم الشعرية بين الشرق والغرب ، هذا إذا اعتبرنا أن الثقافة العربية تتعامل مع الشعر باعتباره جزءا من نظرية المعرفة ، وهو أمر لم يكن واضحا في أية لحظة من تاريخ النقدية العربية ، حيث اعتمد النقد العربي كلية على نظرية البلاغة وعلوم اللغة في بناء موقفه الجمالي والفلسفي من الفنون عامة ومن الشعر على نحو خاص . الفلاسفة ” المسلمون ” وحدهم مَنْ تحدث عن رؤية “ميتا شعرية ” لذلك الجوهر الذي رأوه واحدا من أرقى التعبيرات الإنسانية عن مفهوم اللذة.
ومن المدهش أن تكون الرؤية النقدية للشعر العربي لدى ” ابن سينا ” والفارابي مثالا ، وقد تشكلت قبل ما يقرب من العشرة قرون ، أقرب إلى أحدث المناهج النقدية من تلك النظريات التي تعلقت بأذيال أحدث المذاهب في نظرية اللغة . طبعا قد يتبدى هذا التقارب نتاجا لتأثر الفلاسفة المسلمين بأرسطو، لكنهم بإجماع فلاسفة علم الجمال، لم يكونوا مِنْ نَقَلَتِهِ . وأظن أن هذه المقاربات في الثقافة الشرقية كانت ولازالت تعمل تحت وطأة مناهج استشراقية تواشجت وتناقضت بالقوة نفسها مع رائحة الغازي المقيم الذي يعد أعلى تمثيلات القوة في الحضارة الغربية ، رغم أن شعر تلك المركزية وفنونها عامة ، عملت بتناقض ربما كان جذريا مع كل تمثيلات القوة ، فضلا عن

الشاعر محمود قرني

أن تلك التصورات ارتبطت بحداثة تسلحت بمعرفة اعتبرت أن الأسطورة عدوها الأول ، مقابل رائحة الشرق التي لازالت تستخرج التاريخ من سلة الخرافة .

ولن يتبين قارئ النص العربي بسهولة تلك الأسباب التي جعلت رائحة الاستشراق ذات نفاذية تتجاوز حدود الانسحاق أمام صورة الغازي الذي ترك الأرض لكنه سكن بقية التفاصيل . ” غرائبية الشرق ” ، بتعبير إدوارد سعيد ، لم تكن عاصما من وصفه ببدائية تبدو ، لعدم انضباطها ، خارج التاريخ المدون . لكن الشاعر سيظل شغوفا بمزيد من السحرية وهو يتابع نموذجا معرفيا وإنسانيا فوق مستوى الإدانة تمثله أسطورة القوة ، سواء كان في سلوك الغازي الذي يبحث بطريقته عن اللذة ، أو في النقيض الذي يتجسد في الفتنة بقصص الضحايا من المشرقيين الذين ذهبوا مسحورين خلف نماذج شعرية تبدت في نصوص استعراضية باذخة .
وربما كان أهم ما فعلته الفلسفة العربية أنها بنأيها عن القراءة ” المقدسة ” للشعر عززت مشتركات النص دون إهدار لفكرة الخصوصية ، حيث عملت على تعميق عنصرين أساسيين هما : ” المحاكاة والتخييل ” وهما يمثلان أعلى المشتركات الإنسانية الممكنة ، على أن الاقتراب من الحقيقة الشعرية في كافة الثقافات سيظل حلما طالما كان الشاعر نفسه يجسد وعيه عبر تصورات ممكنة لمفهوم الخصوصية الروحية في إطار تصورات جماعته البشرية دون إخضاع النص لثنائيات تبدو ذات ترجيعات شبه عنصرية .
ورغم أن الشعر يصنف كواحد من إفرازات اللاعقلانية ؛ إلا أن نماذجه لدى الآخر الغربي لم تكن في أية لحظة تمثيلا لوقاحة المركزية الأوربية ، من هنا بدت تلك النماذج المتعاطفة مع الشرق وكأنها انتصار لثقافات مركزية أهانها التاريخ ، وربما هذا ما دفع شاعرا اعترافيا بحجم بول فاليري إلى القول : ” إن أوروبا ما هي إلا مجرد قبعة ناتئة من آسيا “.

تنافس الشعراء والفلاسفة في اكتشاف العالم، منذ آلاف السنون، وأثارت العلاقة الجدلية بينها الكثير من الاشكالات الفكرية، التي غالبا ما تعبر عن الحقب التاريخية وتطور أفكار الإنسان، وبالتالي ألهبت تلك العلاقة الكثير من العقول العابرة على صفحات التاريخ مازاد من توتر الجدلية بين الشعر وعلم الفلسفة، ودفع هذا الاهتمام بوضع الخطوط الفاصلة بينهما وراكم إرث فكري جدير بالدراسة والتأمل

“أصوات” في هذا الاستطلاع واجهت اشكالية العلاقة الجدلية بين الشعر والفلسفة بالنقاش حولها من وجهة نظر الشعراء

الشاعر موسى حوامدة
أفلاطون لم يطرد الشعراء

بدأت الفلسفة شعرًا، كان الفلاسفة الأوائل يعبرون عن أفكارهم في شذرات شعرية، حتى جاء أفلاطون وطرد الشعراء من مدينته الفاضلة، لكنه لم يطرد كل الشعراء، بل طرد الشعراء المحاكين والمقلدين، وكان محقًا في ذلك، أما الأصلاء فلم يجرؤ على طردهم، لأنه يعرف أنهم من مجرة أخرى، وليسوا عاديين، فهم فلاسفة بطريقة أو أخرى.
تتفق الفلسفة والشعر في قواسم مشتركة ولكنها تفترق في تقاطعات أخرى، فهناك الكثير من الفلسفة ظلت هرطقة، وكلامًا بعيدًا حتى عن روح الفلسفة، كما هناك أطنان من القصائد ظلت بعيدة عن الشعر، وحين كتب نيتشه شذراته الفلسفية كان يدمج بين الشعر والفلسفة، ونجح في تقديم نموذج توافقي ما، لكنه غير قابل للحياة والتطوير.
هايدغر ارتأى أن هولدرلين هو النموذج الحقيقي للشعر، وطبعا لا نأخذ رأيه بشكل قاطع وحاسم، فيظل الشعر هو الشعر وتظل الفلسفة هي الفلسفة ومن النادر أن تبرز تجارب شعرية تهضم الفلسفة هضما كاملًا، وحين يقول البعض أن أبا علاء المعري أو المتنبي أو غيرهما من الشعراء العرب كانوا فلاسفة، فهذه مبالغة غير محبذة بالنسبة لي فهم حكماء أو وضعوا حكمة في أشعارهم، ولكن الفلسفة ظلت بعيدة، فلم تتخلل قصائدهم دون افتعال وإعلان، والفلسفة التي تظهر في الشعر كعلامات

الشاعر موسى حوامده

مكشوفة تحرف الشعر عن معناه وطاقته وقدرته الخلاقة، ولا تبدو غير مفتعلة.
لنصدق جانبًا في رأي هايدغر في مديح الشعر، والكتابة عن هولدرلين كمثال للفلسفة الألمانية، قد يكون ذلك معقولًا ربما لأنه لم يكن واضح الملامح الفلسفية، ولم يقصد كتابة شعرا فلسفيًا، وهذه تحسب لهايدغر ولهولدرلين، ولكن الخوف أن تسيطر الفلسفة على القصيدة، فتصبح هيكلًا بلا روح، او نظمًا مباشرًا، والخوف أن يشعرن الشعر الفلسفة فتصبح كلاما نشازًا أو هجينًا، والمؤكد أن اللغة في العالم ليست كلها ألمانية، ليكون هولدرلين هو شاعر العالم.
لكن هذا ليس كلامًا نهائيًا، أو نهاية المطاف، فربما يستطيع شاعر ما أن يستوعب الفلسفة كروح، وليس كطريقة، ويظل محتفظا بوهج القصيدة، فهنا تتوهج الشعرية وتذوب الفلسفة في الشعر، هنا فقط يصل الشعر إلى أقصى طاقته التخييلية، وعدا ذلك يظل الشعر شعرًا معادًا ومكررًا في أكثره وتظل الفلسفة كلاما عقلانيًا، وجدليًا في أغلبها، ويبدو أن تحكم العقل في الحالتين غير مجد.
إذا ابتعدت الفسلفة عن العقل أكثر، وإذا ابتعد الشعر عن الفلسفة أكثر فقد يلتقيان في لحظة تأويلية نافذة للزمن، وإن لم يتقاربا سيظلان صديقين لدودين، تجمعهما اللغة، وتفرقهما الاستعلائية لدي الفلاسفة، والنرجسية لدى الشعراء، وإن كان منبع الطرفين من سماوات غامضة لا يدركها الا الفيلسوف الشاعر أو الشاعر الفيلسوف.

عن غرفة الأخبار

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

شاهد أيضاً

صلاح السعدني في رحاب الله | العمدة سليمان غانم في ليالي الحلمية

ودعت مصر جثمان الممثل الراحل الكبير إثر وفاته (81 عاماً) في ساعة مبكرة من صباح …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *