مخرج فيلم بعد الموقعة برفقة الممثلين

“بعد الموقعة”.. ليس من المُبكر جدًا أن نتحدث عن الثورة

كتب | أحمد شوقي 

يصعب على من عاش الحراك الشعبي المُلقّب بـ”الربيع العربي” على أرض الواقع أن يستوعب مرور عشر سنوات كاملة على الحدث. ربما لأن الحراك قد وقع في بلاد اعتاد سكانها على مرور عقود من الركود السياسي والتغيير شبه المنعدم، أو لأن الانخراط في الفعل ومعايشته يومًا بعد يوم يُفقد الإنسان قليلًا من قدرته على النظر للصورة الكبيرة ووضع الأمور في حجمها المنطقي، أو لأن مركزية الحدث جعلت العقل يضغط ما سواه، فقسمت الحياة لما قبل الثورة وما بعدها، وهذا الذي يليها هو فترة واحدة مرتبطة لا يريد العقل تصديق أن زمنها قد تجاوز العقد.

تتعدد التفسيرات التي يستحيل القطع بصحة أحدها المطلقة، لكن ما يمكن أن تؤكده الحالة هو خطأ الرأي الشائع الذي انتشر في الأشهر التالية للثورات بأنه من المبكر جدًا تناول ما حدث في أفلام سينمائية. قول تردد بكثرة على ألسنة الكثير من الفنانين الذين خرجوا علينا ليؤكدوا أن الحدث قريب للغاية بما يُصعّب مهمة تناوله سينمائيًا، وأن الفنان في حاجة لمرور وقت وصنع مسافة مع الواقعة حتى يتمكن من معالجتها على الشاشة.

في الأغلب كان الرأي نابعًا من تشوش الرؤية الذاتية، وعدم قدرة المتحدث على امتلاك قراءة تُمكّنه من صناعة فيلمه، لكن صياغة الأمر في صورة قاعدة مطلقة تعني أن الفنان قام ضمنيًا بالمصادرة على حق الآخرين في الانفعال بما يجري حولهم، وساوى بين الفن والتحليل السياسي، بما ينفى عن الفن كونه فنًا، يرتبط بالمشاعر أولًا ثم أي شيء آخر لاحقًا، وكأن على صانع السينما أن يُجري دراسة أكاديمية حول كل موضوع ينفعل به ويؤثر فيه!

الغريب أن يصدر هذا الرأي من فنانين. وكأنه من حق الشاعر أن يكتب شعراً عن الثورة، ومن المغني أن يغني عنها، ومن الرسام أن يرسم لوحات عنها، بينما يأتي الأمر عند السينمائي ويتوقف انتظاراً للنتائج والتحليل. السينما ليست تشريح بارد، ورأي كهذا ينزع عن الفن أجمل ما فيه وهو الانفعال. أنت تصنع أفلاماً لأنك منفعل بأمر ما، وتقوم بإيجاد شكل فني لهذه الانفعالات”.

الاقتباس السابق من المخرج المصري يُسري نصر الله، الذي كان أحد أكثر صناع السينما العرب تفاعلًا مع الربيع العربي، فشارك في تجربة “18 يوم” (2011)، أنطولوجيا من عشرة أفلام قصيرة لعشرة مخرجين، قبل أن يصنع فيلمه “بعد الموقعة” (2012) الذي يُمكن اعتباره أول فيلم روائي صُنع بالكامل عن ثورة 25 يناير، بعد عدة أفلام مغمورة قامت بتعديل نهاياتها وبعض أحداثها تماشيًا مع الواقع السياسي.

تعرض “بعد الموقعة” لهجوم كبير وقت عرضه، سواء من النقاد الذين تبنوا نظرية “من المبكر جدًا”، أو من المنتمين للتيار الثوري الذين وجدوا في الفيلم ما يشوه الصورة الذهنية المثالية التي امتلكوها عن الثورة؛ فمن جهة كان الفيلم واقعيًا جافًا لا يتعامل مع الحدث برومانسية كانت عنوان المرحلة، ومن جهة أخرى اختار نصر الله أن يكون بطله الرئيسي (باسم سمرة) خيّالًا ممن تم تحريكهم يوم 2 فبراير لضرب المتظاهرين فيما عُرف إعلاميًا بـ”موقعة الجمل”، ومن جهة ثالثة كان الفيلم ثرثارًا، مليئًا بالأحاديث السياسية المباشرة.

يسري نصر الله لم يندهش من رد الفعل السلبي، بل كان يتوقعه لأنه صنع فيلمًا يشبه المرحلة التي كانت بالفعل مزدحمة بهذا النوع من النقاشات حتى بين المواطنين العاديين، فيلمًا يعبر عن صانعه الذي لم يسع أن يجعله إعلامًا موازيًا.

“سبب الهجوم أن أحداً لم يجد في الفيلم ما كان يتوقعه. كانوا يتوقعون أن يروا ما شاهدوه في التلفزيون.(..) لم أصنع فيلماً كإعلام إضافي يشرح لهم ما شاهدوه. (..)قالوا إني أشوّه الثوار، وأنتصر لمن هجموا على التحرير، واللطيف منهم قال لي إن هذا ليس الوقت المناسب لتقديمه. جميل. لا تشاهده الآن لكني صنعته. أنت نفسك لم يعجبك الفيلم عندما شاهدته وقت عرضه، الآن أعتقد أن موقفك منه تغيّر. على الأقل صرت قادراً على التعامل معه كفيلم يعبّر عن صاحبه، لا شيء يفترض أن يعبّر عنك. وشعوري حيال الكثير من هذه الآراء أن أصحابها لم يكونوا قادرين على التعبير عن أنفسهم، لذلك انتظروا أن يقوم الفيلم بالتعبير عنهم، وهذه ليست مشكلتي على الإطلاق”.

رأي المخرج مادة صالحة للنقاش والاختلاف والاعتراض، لكن مشاهدة جديدة للفيلم تجعلنا ندرك أنه مع كل عام يمر ويبعدنا عن “الموقعة” يغدو “بعد الموقعة” عملًا أكثر قيمة وقابلية للمشاهدة، بعكس الكثير من الأفلام التي واكبت نشوة اللحظة فقوبلت وقت عرضها بحفاوة، قبل أن تتناقص قيمتها تدريجًا بمرور الوقت وتغير الأوضاع. لتظل القيمة الفنية الأعلى من نصيب الأفلام الأكثر ارتباطًا بصناعها، والأقدر على إثارة الجدل والنقاش وفتح باب الاختلاف.

الأمر الذي يقودنا – وبعد نظرة لأفلام الربيع العربي – للوقوف في صف يسري نصر الله في هذا الشأن، وتبني نظرية تقول إن التفاعل مع اللحظة يستحيل أن يكون مبكرًا. قد يكون تفاعلًا ينقصه الدقة، أو يحمل موقفًا سيمر صاحبه لاحقًا بما يدفعه لمراجعه بل وتغييره، لكنه يبقى عملًا فنيًا صادقًا له قيمته الفنية والتاريخية.

  • الاقتباسات من كتاب “يسري نصر الله.. محاورات أحمد شوقي”.. صادر عن مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية 2017

عن غرفة الأخبار

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

شاهد أيضاً

ليلة النساء | هيب هوب في مهرجان الفيلم العربي بروتردام

برومو ليلة النساء كنتفة ملح يذوب بسرده ليُحدث تأثير دون تأثر في شكل الإبنة المغربية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *