كتب | د.ايهاب بديوي
فانتازيا الواقع وزحام الأفكار وانهيار العقل. قراءة في رواية ثرثرة لا يسمعها العالم للكاتبة عبير نعيم أحمد
تتشكل ثقافة الكاتب من خلال رافدين أساسيين الأول هوة خبراته وتجاربه الشخصية وعلاقاته بالمحيط به زمان ومكان وأشخاص والثاني هو قراءاته وتفاعلاته ونوعية ومستوى تعليمه. تتفرع الكثير من الروافد الأخرى من هذين العنصرين الكبيرين.
وتشكل الأعمال الأولى دوما إشكالية كبيرة للكاتب. فهو لايزال في طور التشكل والشك ولم يتضح له أسلوبه الأدبي أو جملته السردية ولا الموضوعات التي ستكون محور اهتماماته وسيجد نفسه مدفوعا بقوى لا إرادية للتعبير عنه. كل ما سبق ينصهر في بوتقة واحدة هي المحرك الرئيسي والعامل الحاسم في مدى أهمية وجودة ما يكتب ألا وهي الموهبة.
نبدأ قراءتنا لهذا العمل بالعنوان. نعرف أن الثرثرة هي الكلام الكثير المسترسل. لكن من المفترض أن تكون بين قائل ومتلقي أو مجموعة من المتلقين. فكيف تكون ثرثرة ولا أحد يسمعها؟ هذا التناقض في المعنى يمثل عنصر تشويق وجذب للقارئ لفهم المقصود ولمعرفة هل أجادت الكاتبة في اختيار العنوان أم أنه لا يناسب العمل؟ من هذا التساؤل نلج إلى متن العمل.
مُحاكمة سريعة لرجل تنتهي بسجنه عشرة سنوات وهو يدعي البراءة. رسلان بطل العمل يودع زوجته بحزن بالغ ويدخل ليلقى مصيره بعد أن سألته زوجته من أين بمصاريف محام وهم لا يجدون قوت يومهم. تلقيه اليد القابضة عليه على أرض رطبة في غرفة مظلمة. وهو يجتر حزنه يفاجأ بيد تصفعه ثم تطعمه خبزا جافا وتقيم حوارا معه. يخبره أنه مسجون لسرقة كتاب. بعد عدة حوارات وأحلام خانقة يخبره السجان أنه لوحده في الغرفة ثم ينقله إلى غرفة أخرى يلتقي فيها سجينا آخر هو آسر عاشق الشطرنج المسجون لقتله الملك. يمارس اللعب معه ويندمج فيه حتى لم يعد يعرف الفارق بين الحقيقي والخيالي.
في الحكاية الفانتازية الثانية منطلقة من لعبة الشطرنج تتحول اللعبة إلى واقع ويجاهد رسلان لقتل الوزير الذي جمع السيدات لحلبهن حتى يستحم الملك في ألبانهن ويجد رسلان زوجته بين المقهورات فيقتل الوزير وبعده الملك بمساعدة رفيقه آسر الذي يتضح في النهاية أنه شخصية خيالية ويقف المشهد عند صياح رسلان لقتله الملك فيتم محاكمته من جديد ويحصل على عشرة سنوات أخرى.ثم تمر حكاية رؤيته لشخص يشبهه وفتاة حسناء يشتهيها تنتهي بأن ينقله الحارس إلى مكان مخصص للمرضى النفسيين.
يقابل مريضا واحدا يخبره أنه كاتب حدث زلزال في مدينته فسجنته دار النشر لأنه حصل على مال ولم يقدم عمله وخلال ذلك يستعيد البطل سبب دخوله السجن حين ضرب تموز صاحب العمل لأنه رفض مساعدته في علاج ابنته التي تعرضت لحادث أدى لقطع ذراعها. تستمر الثرثرة في رأسه فيتخيل طباخ السيد تموز في السجن لمحاولته قتل تموز بسبب اغتصابه لزوجته فتزيد الشكوك في عقل رسلان.
وتستمر حيرته وتعطي الكاتبة صوت زوجة رسلان الفرصة لنعرف كيف استسلمت لتموز بسبب حاجتها الشديدة للمال وسلمها أيضا لشخص آخر وتستمر المشاهد الفانتازية حين يهرب رسلان من السجن ويعمل مذيعا بالمصادفة لإجادته تقمص الشخصيات حتى يطلب منه عمل دور فقير فيغضب منه المخرج ويعيده للسجن وتظل الأصوات تعبث في رأسه رغم عمل عملية إزالة مخ له وفي النهاية نصل إلى مشهد صادم حين يعرف أن السجن بلا أبواب أصلا لكن مكتوب على بابه عبارة واحدة لو كان العدل والأمان في الخارج فتفضل بالخروج…
نحن إذن أمام واقعية سحرية ممتزجة بالذهان أو مرض تعدد الأصوات النفسية وربما نصل إلى انقسام الشخصية وهي أمراض تجعل المريض يرى أشياء غير حقيقية ويسمع أصوات غير موجودة. الرواية جاءت بلا تقسيمات داخلية وكأنها حكاية طويلة متتابعة وقد أخذتنا في رحلة داخل عقل رسلان فعشنا معه صراعاته النفسية العنيفة ولمسنا بأعيننا الشخصيات التي تحاورها حتى إذا ما صدقنا وجودها صدمنا السجان نفسه بالسخرية حينا والشفقة أحيانا على حال السجين المسكين. أجادت الكاتبة نقل الأفكار بسلاسة وتصوير حالة الخلل العقلي العنيفة التي يمر بها بطل العمل نتيجة فقره الشديد وضغط المجتمع عليه حتى انفصل عنه عقليا. وفي تناص مع بؤساء فيكتور هوجو الذي تم سجن البطل فيها لسرقته رغيف خبز. يتم سجن البطل هنا لسرقته حذاء.
والغريب أن الأحكام دائما ثابتة على كل فعل يعتبرونه مخالفا لقوانينهم. وهو عشرة سنوات سجن. نحن أمام بطل مشوه الفكر يعيش في وطن مشوه الواقع في زمن مادي طاغ على كل الأخلاقيات. لغة العمل جاءت فصحى تظهر فيها قراءات الكاتبة وفلسفتها الخاصة وثقافتها الواضحة. لكن الحبكة السردية واللغة الفنية ستزيد قوة ووضوحا وبساطة مع ممارستها الكتابة. كل التوفيق في القادم للكاتبة..