بقلم: ضحى أحمد الباسوسي
كان التيه يحاصرها من كل اتجاه، وكأن الدنيا قد ضاقت بها حتى صار الهواء من حولها ثقيلاً كالهموم، تحمل في عينيها خليطاً عجيباً من انكسار ويقين ضائع. تلك النظرة الغامضة، مزيج اليأس والأمل المخبوء، كانت كسحرٍ يُغرقني في تساؤلات بلا إجابات، يبعث في نفسي دهشة كمن يكتشف سرّاً دفيناً في قلب الظلام. اقتربتُ منها أكثر، وكأن خطاي قادتني إلى كهف عتيق مظلم، جدرانه مغطاة بأحجار كريمة لا تفصح عن سر توهجها. كلما توغلت في ذلك الكهف، شعرت أنني أسير نحو عمقٍ مجهول، نحو حكاية لم تُروَ بعد. وبينما كنت أسترق السمع إلى صمتها، انفرجت شفتيها فجأة، وبدأت كلماتها تنساب كجدول ماء عذب في أرض عطشى، تحكي عن ضياعها وتوهانها، وكأنها تبحث في حديثها عن خريطة للخلاص لتقول: تلك اللحظة التي احتضنتُ فيها نفسي لأول مرة، كان الأمر أشبه بمعانقة ظلٍ على حائطٍ قديم، لم تكن اللحظة دافئة كما توقعت، بل كانت أقرب إلى غبارٍ يملأ صدري، يلفّني بحكاياتٍ لم أعد أذكرها. رأيتُ عينيّ تغرقان في مرآةٍ صدئة، تنعكس عليهما صورةُ امرأةٍ غريبة ترتدي ملامحي وتبكي بضحكٍ مكتوم. حينها، أدركت أنني قضيت عمراً أطاردني، أبحث عن ذاتٍ ضائعة خلف أبوابٍ لم أجرؤ يوماً على طرقها. تلك اللحظة، حين التصق جسدي بوجودي، شعرتُ وكأنّ السماء تمطرُ رماداً دافئاً، يلتصق بي ويهمس: “هذه أنتِ، بكل تناقضاتكِ.” لم يكن الحضن ناعماً، بل كان خشبياً، كأنّ ذراعيّ نفسي قد نُحتتا من جذوع أشجارٍ صامدة في عاصفة. كانت الأصوات حولي تختفي، وكأن العالم قرر أن ينحني احتراماً لتلك اللحظة التي اكتشفت فيها كم كنت غريبةً عني. رأيتُ ملامحي تتناثر على الأرض، قطعاً من مرايا متشظية، كل واحدة تحكي عني شيئاً مختلفاً. رأيت الطفلة الخائفة التي كانت تختبئ خلف الأبواب، ورأيت المرأة الشامخة التي خدعتها أكتافها، ورأيتُ الفراغ الذي كان بينهما. عانقتُ تلك الفراغات، ملأتُها بأنفاسي، وكأنني أزرعُ في صدري بذور حياة جديدة. في ذلك الحضن، شعرتُ بأطياف العمر تمر بي كقطارٍ لم يُصنع للتوقف، كل محطة كانت صورة، كل صورة كانت سؤالاً لم أملك له إجابة، لكنني، ولأول مرة، لم أهرب، بقيت هناك، حيث تشابكت ذراعيّ بذاتي، ورأيت أنني لستُ وحيدة كما كنت أظن. الغربة؟ نعم، كانت غربةً.
لكنّها غربةٌ تشبه رائحة البحر لأول مرة، تُخيفك لوهلة، ثم تجذبك نحوها حتى تغرق.