بقلم: ضحى أحمد الباسوسي
عنها، تلك التي ظنّت أن الجميع سواء، غاب عن بالها أن أصابع اليد الواحدة ليست نسخةً مُكررة، بل لكل إصبعٍ قصة، بصمةٌ لا تُشبه الأخرى.
نسيت أن العالم ليس مرآةً تعكس وجهًا واحدًا، بل هو لوحةٌ ألوانها متداخلة، وكل لون يحمل حكاية. كيف غفلت عن أن الحُكم على القلوب كالحُكم على البحر من السطح؟ كم من قاربٍ خُدع بصفاء الماء، وما إن غاص، حتى واجه أعماقًا لا تشبه السطح أبداً؟ تلك التي تعتقد أن البشر جميعاً وجه واحد في مرآة واحدة، لا ترى انعكاس التفاصيل ولا تسمع حفيف الأرواح المختلفة في ذات الريح.
هي التي ظنت أن الحكم على الكل بخطيئة الفرد عدل، وأن وضع كل الوجوه في قناع واحد يجعلها أقل تعقيداً وأكثر فهماً، بينما الحقيقة أن الظلال المتمازجة هي التي تصنع لوحة الحياة. عنها تلك التي نسيت أن الأمانة ليست في أن تُلقي بالحِمل على أول عابرٍ، بل في أن تزن الأمور بميزان العدل، وألا تأخذ أحداً بخطأ الآخر. فهي لم تُدرك أن الحياة، رغم قسوتها، أمانةٌ ثقيلة تحتاج إلى حكمة تُشبه حكمة الأم حين توازن بين أبنائها، فلا تُفرّق ولا تظلم.
الحياة ليست حرباً تُشعلها كلمة، ولا بناءً يهدمه انفعال، فالهدم، كما النار، لا يتطلب أكثر من شرارة، لكن البناء هو الحكاية الأطول، المليئة بالأخطاء التي تُصقل التجربة، والتنازلات التي تُثمر حُباً، والتضحيات التي تُبقي الأرواح متماسكة كخيوط الشمس وقت المغيب. الحفاظ على ما اتفقنا عليه، عمراً ودهراً، هو اختبارٌ يومي لقوة الإنسان أمام نزواته وضعفه. إنه امتحانٌ للصبر الذي يجعلنا نحتمل الأيام العاصفة، للرحمة التي تعلّمنا أن القسوة ليست دائماً حلاًّ، وللتعاطف الذي يربط بين القلوب كما تربط جذور الشجر أرضاً واحدة. يا لها من حقيقة مرّة، أن الصوت العالي، رغم ضجيجه، أضعف من همسة تعاطف في أذن قلبٍ متعب.
الصراخ يُحطم، بينما الهدوء يُعيد ترتيب الفوضى. الأنانية تبني الجدران، لكن المشاركة تهدمها وتُمهّد الأرض لبناءٍ مشترك. أفلا تدركين أن البناء رحلةٌ تحتاج إلى أيدٍ متكاتفة، لا أصابع متفرقة، كلٌّ يشير باتجاهٍ مختلف؟ هي لم تعِ أن الحفاظ على الحياة هو فنُّ من يتقن ترويض الريح، ويحوّلها إلى لحنٍ يتمايل معه القصب، بدل أن تتحول إلى عاصفةٍ تقتلع كل شيء. أن تُبقي على ما هو جميل، أن تسقي نبتة العلاقة بماء الصبر والتفاهم، هذا أصعب وأعظم بكثير من هدم كل شيء بجرة قرارٍ أو كلمةٍ جافية. لقد غاب عنها أن الحفاظ على الحياة، تلك الشعلة التي تنبض رغم الريح، أصعب ألف مرة من إطفائها. الهدم دائماً كان الفعل الأسرع؛ يكفي صوت مدوٍّ، ويد واحدة، لينقض بناءً صنعه الزمن وشيّدته الأرواح.
أما البناء والترميم ومحاولة الاحتفاظ بلمعان الحلم في عيون الآخرين، فهذا يتطلب شجاعة عظيمة، وصبراً متجدداً، وتفهّماً يتسع لكل جراح البشر. كيف لها أن تفهم أن الحياة ليست سباقاً يُحتسب فيه الصوت العالي واليد القوية فقط؟ بل هي رحلة من المشاركة، حيث القلوب تلتقي لتغزل نسيجاً لا ينقطع، حيث الأنانية تصبح مجرد وهم تذروه الرياح أمام نور التعاطف.
إنها الرحلة التي تحتاج إلى صبر الأنبياء، إلى عين ترى النور حتى في الظلام، وإلى يد تمتد لتصنع جسراً، لا لتهدم صرحاً. تلك التي لم تدرك بعد أن الاتفاقات التي نرسمها مع الزمن ليست خطوطاً على ورق، بل هي أعمار تُهدى وأرواح تُبذل. لقد نسيت أن الحفاظ على العهد أصعب ما يكون، وأن الهدم يفتح أبواب التيه، حيث لا اتجاه ولا مقصد، وإن القوة الحقيقية تكمن في البقاء والدفاع عن الحلم، في حماية تلك التفاصيل الصغيرة التي تجعل الحياة أكبر من مجرد أيام تمضي..