بقلم عبد الصمد الشنتوف
نحن في منتصف الثمانينات ، ولا حديث يدور بين الشباب في مقاهي العرائش الا حول لندن ، يجلس فتاح بمقهى اطلس ويتحولق حوله مجموعة من الشبان مشدوهين ، يستمعون الى حكاياته الكيشوطية ومغامراته ببريطانيا ، لا صوت يعلو على صوت فتاح بالمقهى ، كان حديث العهد بالهجرة ، يسدل شعرا كثيفا على كتفيه وسلسلة ذهبية شديدة اللمعان حول عنقه ، يتبختر في حركاته ويتصنع في نطق بعض العبارات بلكنة اعجمية وكانه بدأ ينسى او يتناسى لهجته العربية ، الجميع في المدينة يعلم انه منذ عهد قريب كان عاطلا عن العمل ، وبالكاد يحصل على بعض الدريهمات ليشتري بعض السجائر ، كان مشهدا لا يتكرر الا عندنا في العرائش .
بدأت فكرة لندن تراودني وتحتل مساحة من اهتمامي ، لم يكن لدي اي اقارب يعيشون هناك ، وهذا كان عائقا كبيرا عندي ، فقررت ان افاتح خالتي في الموضوع ، خالتي امرأة عصامية و اجتماعية الى اقصى الحدود ، الجميع يعرفها ويسلم عليها بحي بونبيروص ، كنت احبها واتردد على بيتها بانتظام ، وعدتني بان تكلم زوجها الحاج في طلبي حتي يشير على اخيه عبدالسلام الادريسي ليستضيفني بلندن .
الحاج بدوره كان رجلا طيبا متسامحا وزوجا ودودا يحب خالتي ويعتني بها كثيرا ، سلمتني ورقة مكتوب عليها عنوان صهرها بلندن ، ودعت لي بالخير والتوفيق في رحلتي المزمعة ، كانت بالنسبة لي رحلة الاحلام ، كان عمري انذاك لا يتجاوز اثنا وعشرين سنة ، ضربت موعدا مع اصدقائي الاربعة ( البوطي، الودكي، خالد المرغني وابن عمه يوسف ) ، حددنا موعد الرحلة يوم 15 يوليو 1986 صباحا والانطلاقة من المحطة الطرقية الى مرفأ طنجة ، ركبنا جميعا في حافلة “سكانويلا ” وانطلقنا على بركة الله ، كان الجو يشتعل حرارة ، وصلنا بعد ساعتين وذهبنا في اتجاه المرفأ مشيا على الاقدام ، كانت باخرة “باسم الله” على وشك الاقلاع ، استقلنا الباخرة المهترئة وبدأت تبحر بنا نحو الضفة الاخرى من العالم المتحضر ، معظم المسافرين من المغاربة ، رست الباخرة بسلام في ميناء الخزيرات وبدأ الركاب يتسابقون ويتدافعون نحو بوابة الخروج ، الجميع في عجلة من أمرهم وكأنهم في يوم القيامة ، خرجنا من الباخرة قاصدين محطة القطار لان رحلتنا ستكون طويلة وتمتد لاكثر من يومين ، لما وصلنا الى محطة القطار وجدنا المسافرين المغاربة يتزاحمون ويتقاتلون حول شباك التذاكر ، اغلبهم طلبة متعلمين من جميع انحاء البلد ، لكن لا صبر لهم على الوقوف في الطوابير ، خيل الي الامر عندما كنا نتزاحم ونتجمع حول بوابة سينما ابنيدا عند عرض فيلم ” الوصايا العشر لسيدنا موسى” ، كان المشهد في غاية التقزز والاسبان ينظرون الينا باستغراب ، قوم هاجوج ماجوج وصلوا الى اسبانيا ، توجهنا نحو القطار ومعنا شاب بيضاوي انضم الى مجموعتنا ، صعدنا الى العربة فوجدنا اغلب الغرف مقفلة باحكام ، ذهب البيضاوي الى احد موظفي القطار فاعطاه 100 بسيطة خلسة ليفتح لنا باب احدى الغرف ، قلت في نفسي : حتى الاسبان وصلت عندهم عدوى الرشوة ، نحن قوم لا نصدر الا الاشياء القبيحة .
دخلنا الى الغرفة وانطلق القطار الى هنداي وهي مدينة في الحدود مع فرنسا ، غرفتنا تتسع لثمانية اشخاص ، جلست بجانب يوسف بينما البوطي يتجادب اطراف الحديث مع صديقه الودكي أما خالد فيتصفح احدى المجلات وينظر عبر نافذة القطار وكانه لا يرغب في الكلام معنا ، لم يكن القطار يسير بسرعة فائقة ، والمدة المقدرة للوصول الى مدريد هي عشر ساعات . وصلنا الى محطة “أوطوشا” بمدريد بعد الفجر فركب معنا كهلا اسبانيا يشرف على الخمسين ، اخذ مكانه قبالة يوسف ، علمنا بعد ذلك ان اسمه منولو ويشتغل كموظف بمدريد و متوجه الى مدينة سان سبستيان لزيارة والدته . سألني ؛
– من اي مدينة انتم بالمغرب ؟
– نحن جمبعا من العرائش باستثاء هذا من الدار البيضاء . فاردف قائلا :
– انا مزداد بتطوان ويشدني الحنين الى تلك المدينة الجبلية التي امضيت فيها طفولة جميلة . مضيفا : – لماذا انت وحدك تتحدث بالاسبانية بين اصدقائك ، اين تعلمت؟
– تعلمت مع اصدقائي في الحي حسن و احمد , كانا يدرسان بمدرسة” luis vives” .
– انتم المغاربة بارعون في اللغات
– شكرا لك ، الحاجة أم الاختراع .
أدخلت يدي في حقيبتي المتردية واخرجت بلاستيكة تضم بعض حلويات “غريبة” ، اعطيته قطعة واحدة وقلت له : تفضل هذه حلوى مغربية من صنع يدي أمي ،
تذوقها وقال : هذه الحلوى تشدني الى حنين الماضي ، كان جيراننا بتطوان يغدقون علينا بمثلها خلال اعياد المسلمين . كان زمنا جميلا .
وصلنا الى محطة سان سبستيان فودعنا منولو قائلا : اتمنى لكم رحلة طيبة الى لندن . تابع القطار سيره الى هنداي ، فقمنا بتغيير القطار الى وجهة جديدة نحو باريس عاصمة الانوار . كان الليل بدأ يسدل خيوطه ، والقطار يشق طريقه في ظل ليل دامس ، وكل واحد منا خلد لنومه العميق . وصلنا الى “gare du nord” حوالي الثامنة صباحا فقمنا باقتناء تذاكر المترو لتغيير المسار نحو محطة “austerliz” , تخطينا الحاجز الاوتماتكي لكن الودكي لم يفتح له الحاجز ، حاول مرة اخرى لادخال التذكرة فلم يوفق ، يوسف ينصحه بالقفز على الحاجز حتى لا يفوتنا القطار ، لم يتردد الودكي فقام بالقفز على الحاجز وكأنه لاعب أولمبي ، غرقنا في الضحك من ذلك المشهد المثير والبوطي يقول له : لقد تفوقت على الاولمبي “edwin morris” بقفزتك الرائعة .
استقلنا القطار من جديد في اتجاه مدينة “boulogne” شمال فرنسا ، وهي مرفأ عبور الى مدينة “folkstone” البريطانية . ركبنا باخرة عملاقة تسمى “sea link” وبدأت تبحر بنا نحو بلاد الانجليز .
بحر المانش ليس هادئا مثل المتوسط ، فقد كانت الباخرة تتمايل بنا وهي تقتحم الامواج العاتية .لم يسبق لي ان استقلت باخرة ضخمة ، كانت تعج بالسياح الاوروبيين وتضم متاجر فاخرة اضافة الى المطاعم ودور سينما ، في البهو كان رجلا يرتدي بدلة بيضاء و يعزف على البيانو ليطرب المسافرين ، كنا نستمتع ببعض معزوفات جون لينون الساحرة . رست الباخرة في مرفأ فلكستون بسلام فتوجهنا جميعا نحو شرطة الحدود ونحن نقرأ اللطيف . لان بلاد الانجليز لا يدخلها سياح الدول النامية بسهولة ، فالشرطة تواجهك برزمة من الاسئلة قد تكون ماكرة احيانا ، والانجليز ليسوا كباقي شعوب العالم فهم معروفين ببرودة اعصابهم وذهاءهم السياسي .
جلسنا على الكراسي ننتظر لحظة الامتحان وكل واحد منا يقول في نفسه ” غي الله يخرج العاقبة على خير ” . خرج الي ضابط عملاق بعينين زرقاوين وشعر اشقر وانا اقرأ سورة “يس” في نفسي : ( وجعلنا من بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا فاغشيناهم فهم لا يبصرون ) . كان يبدو لطيفا على الرغم من ضخامة شكله ، يحمل اسم ستيف على البادج ويتحدث الفرنسية بطلاقة . سألني :
– هل سبق لك ان زرت بريطانيا ؟
– لا
– ولماذا اخترت بريطانيا لهذه الزيارة ؟
– احب ثقافة الانجليز و اعشق لندن مدينة البيتلز وشكيبير
– حسنا ، من اي مدينة بالمغرب
– انا من العرائش مدينة صغيرة تقع قرب طنجة
– اعرف طنجة جيدا لقد سبق لي ان زرتها ، مدينة كانت مستقرا لبعض الشخصيات البريطانية والامريكية
– نعم مدينة بول بولز و ولتر هريس
– تعرف ولتر هريس ؟
– نعم ، صحافي ومؤرخ شهير ، كان جدي يحدثني عنه لانه كان يشتغل عند الزعيم الريسولي
– الريسولي هو روبن هود المغرب ، لقد قام باشهر عملية خطف في التاريخ . فلنعد الى الموضوع :
– كم مدة ستمكث في بريطانيا ؟
– شهر او شهرين
– وكم عندك من النقوذ ؟
– عندي 170 جنيه سيدي
– هذا مبلغ زهيد ، هل لديك اقارب ؟
– نعم عندي صهر خالتي ، اناس طيبين وميسوري الحال
– هل لديك عنوان ورقم هاتف ؟
سلمته ورقة العنوان وقال لي انتظر هنا سوف اعود بعد قليل .
بعد عشر دقائق ، رجع عندي و هو يبتسم ، اعاد لي ورقتي و سلمني جواز سفري بعد ختمه قائلا :
– يبدو انك شاب طموح مرحبا بك في بريطانيا العظمى ، استمتع بزيارتك
– شكرا لك سيدي
خرجت الى البهو فوجدت المرغني خالد ويوسف ينتظران ، بعد خمسة دقائق خرجا البوطي والودكي . الحمد الله الجميع اجتاز الامتحان بنجاح وكانت الفرحة بادية على وجوهنا . اتجهنا نحو المحطة لنستقل القطار الى لندن ، فقال لنا الموظف : القطار الاول ستكون وجهته الى “charing cross” اما الثاني سيتوجه نحو ” victoria ” خلال خمسين دقيقة . لقد قررا أصدقائي جميعا الانتظار لركوب القطار الثاني لانهم كانت لديهم تعليمات من اقاربهم اما انا فلا تعليمات لدي ، فاستقلت القطار الاول وذهبت الى محطة ” charing cross ” حيث هناك ستبدأ حكاية أخرى وسط عاصمة الضباب …يتبع …
محبتي للجميع
من الحجر الصحي بطنجة 15 ماي