القائمة

الإعلام الهولندي والعالم العربي

admin1 سنتين مضت 0 5.9 ألف

“تخيل شخصا يقيم في إسبانيا، لا يعرف أي كلمة هولندية، ويغطي قضية تتم مناقشتها في البرلمان الهولندي. أتعتقد أنه سيقوم بعمل جيد؟”

نيكولين كيغيلز

في كتابه “هيت زين نيت مينسين” (إنهم مجرد أشخاص) الصادر عام 2006، طرح يوريس لوينديك، المراسل السابق لإذاعة إن آر سي الهولندية في القاهرة، مثل هذا السؤال لتأكيد استحالة تغطية ما يحصل في “العالم العربي” لصالح الإعلام الهولندي بشكل دقيق. ويصف بالتفصيل طريقة تحضير الأخبار، قولبتها والتلاعب بها.

الكتابة من هولندا عن العالم العربي
في كتابه، يقول لوينديك أن معظم الصحافيين والمراسلين في العالم العربي على معرفة قليلة إن لم نقل معدومة باللغة العربية، سواء المحكية ولا المكتوبة. ويتحدث كذلك عن صعوبة تغطية منطقة بكبر أوروبا تعتبر وحدة متراصة.

لكنه يسأل كيف أن اللغة التي عليه استخدامها للوصول إلى جمهور صحيفته لا يمكنها أبدا وصف العالم الذي يعيش فيه. ففي النهاية، هل يفهم القارئ الهولندي حقا معنى الدكتاتورية أو الاحتلال؟ أو هل يعي القارئ الهولندي أنه حين يستخدم الصحافي عبارة “الرئيس السوري” أو “القضية المرفوعة ضد قائد في المعارضة” أن كلمتي “الرئيس” و”القضية” لا تحملان نفس المعنى الذين تحملانه في السيناريو الهولندي؟

بعد العيش في “العالم العربي” (في لبنان بالتحديد) لأكثر من عامين وفهم اللغة العربية إلى حد ما، قررت النظر في تغطية الصحف الهولندية لهذا الجزء من العالم لمعرفة إن كان لوينديك لا يزال على حق، أو أن الأوضاع اختلفت. فرغم أن كتابه لا يقدم حلولا عملية، إلا أنه يسلط الضوء على الأخطاء ونقاط الضعف.

قمت بدراسة أكبر خمس صحف هولندية: دي تلغراف، وألخيماين داخبلاد، ودي فلوكسكرانت، وتراو، وأن آر سي هاندلسبلاد. لسوء الحظ، إن كان الأمر يتعلق بقلة التمويل، أو بالتدخلات السياسية أو بقلة الفهم، يبدو أن كتابه لم يحدث فرقا كبيرا.

الصحف النوعية مقابل الأخبار السخيفة
لكل صحيفة خط تحريري خاص لجمع واختيار الأخبار. بالنسبة للبعض، تذكر الخطوط العريضة على الموقع الالكتروني لكل صحيفة، فيما البعض الآخر يعتمد عملية متطورة بين فريق التحرير.

في المجتمع الهولندي، لكل صحيفة طابع خاص: تعتبر أن آر سي هاندلسبلاد ليبرالية وتستهدف النخبة المثقفة لأنها تركز على القضايا الاقتصادية والدولية؛ تراو صحيفة ذات خلفية دينية بروتستانتية تنعكس عبر التركيز الخاص على القضايا الدينية، التعليم والمجتمع. أما دي فلوكسكرانت، فهي أكثر حيادية (مع تاريخ بدعم الحزب الاشتراكي) ما يعني أنها تستقطب منتخبي الوسط واليسار. وغالبا ما ينظر إلى هذه الصحف الثلاثة على أنها “صحف نوعية”.

من جهة أخرى، تعتبر ألخيماين داخبلاد ودي تلغراف صحفا شعبية، وتجذب اليمينيين. على صفحتهما الالكترونية، تحتل أخبار المجتمع والمتفرقات أو الحياة الخاصة للنجوم المحليين القسم الأكبر.

كما تعتبر هاتان الصحيفتان من الأكثر مبيعا في البلاد، مع بيع 500,000 و 700,000 تقريبا في اليوم على التوالي، فيما تبيع “الصحف النوعية” حوالي 110,000 (تراو)، 220,000 (أن آر سي) و260,000 (دي فلوكسكرانت) نسخة يوميا.

تل أبيب، قلب العالم العربي النابض
لكل الصحف المذكورة أعلاه مراسل يغطي العالم العربي أو على الأقل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، يقيمون بدون استثناء في تل أبيب أو القدس اللتين، بحسب قول محرر دي فلوكسكرانت، ليستا مدينتين عربيتين.

مراسل تلغراف في تل أبيب هو “المصدر الوحيد على الأرض” في العالم العربي، وهو لا يتكلم العربية. دي فلوكسكرانت لم يعد لديها مراسل في لبنان، ولا تبدو متحمسة لاستبداله. وقد وظفت الصحيفة مراسلة حرة لها في المغرب، لكن هذا البلد يعتبر جزءا من أفريقيا، ولا تعلم محررة الأخبار الدولية في الصحيفة إن كانت المراسلة تتحدث اللغة المحلية أم لا.

ويختلف الوضع مع تراو التي لديها عدة مراسلين في العالم العربي. كما أن مراسليها الحرين في القاهرة وسوريا يتحدثون اللغة العربية، لكن المراسل في شمال العراق لا يتحدث العربية ولا الكردية.

لألخيماين داخبلاد مراسل واحد خارج إسرائيل وهو صحافي يتحدث العربية يقيم في بيروت، من دون أي مراسل في شمال أفريقيا. وعينت إن آر سي مؤخرا مراسلا لها خارج إسرائيل يقيم في القاهرة. أما مراسلها في إسرائيل، ورغم أنه يغطي الأراضي المحتلة كذلك، فبالكاد يتكلم العربية وعليه التعامل مع المترجمين عند تغطية الأحداث على الأرض.

الاعتماد على المترجمين
لا يبدو أن أحدا من الذين أجريت معهم مقابلة لهذا التقرير، من المحررين أو المراسلين، يعتبر أن عدم فهم العربية مشكلة أساسية. يبدو أن لا حاجة لقراءة أو فهم الأخبار المحلية، أو ربما يعتبرون آراء المثقفين المحليين غير مهم. ويعتقدون أن تحدث اللغة المحلية ميزة إضافية، لا حاجة ضرورية لفهم ما يجري على الساحة المحلية. كما يبدو أنهم لا يعون المشاكل التي يمكن أن تظهر عند العمل مع مترجم، فقد يثق الناس بالصحافي لكنهم لا يتكلمون بحرية أمام المترجم لأنهم يعتبرونه عميلا، أو ينتمي إلى الحزب السياسي أو الديني المعارض لهم.

إضافة إلى ذلك، وفي حال غياب المترجم، لا يمكن للمراسلين أو الصحافيين الذين لا يتحدثون العربية إلا التكلم مع المواطنين الذين يتحدثون الانكليزية، أو الفرنسية في بعض البلدان. هذا لا يعني فقط أنهم يتحدثون مع من يتمتع بمستوى من التعليم، بل إن هذا يمنعهم من الاستماع إلى الأحاديث التي تجري في سيارات الأجرة أو الحفلات.

من الصعب المبالغة في أهمية المعلومات الداخلية، والأمور التي تقال “بشكل غير رسمي”، ليس فقط عند إجراء مقابلات مع المسؤولين بل عند التحدث “مع الناس على الطرقات” كذلك. قد يعتقد المرء أن الصحافيين الذين يحاولون الترجمة وفهم “العالم العربي” يعرفون كيفية القراءة بين السطور وفهم ما يقال في الملاحظات العادية لفهم الاختلافات وتعقيدات الحياة.

عندها، قد يسأل المرء ما هي وظيفة الحقيقية للمراسلين والصحافيين العاملين في العالم العربي الحقيقية؟ فإن لم تكن نشر معلومات لفهم هذا الجزء من العالم الذي لم يزرهم الكثير من القراء الهولنديين، فماذا تكون؟

هل المراسلون والصحافيون الهولنديون موجودون لتغطية الأحداث الكبرى التي تظهر على وكالتي أسوشيايتد برس ورويترز؟ تبدو الكثير من المقالات في الصحف الهولندية ترجمة مباشرة للأخبار التي تظهر على الوكالات الكبرى. بعضها يظهر كما هو من دون أي تعديل، وتضاف بعض المعلومات إلى أخرى.

فمراسل دي فلوكسكرانت مثلا قام ببعض الأبحاث في خلفية شهادات الجنود الإسرائيليين التي نشرتها منظمة برايكينغ ذا سالينس (كسر جدار الصمت). كما طلب تعليق من الجيش الإسرائيلي. لسوء الحظ، نسي أو لم يتمكن من التحدث إلى أهالي غزة لتأكيد شهادات الجنود (فهم كانوا موجودين في قلب الحدث كذلك). لذا، أظهرت المعلومات المقال من وجهة نظر أحادية، ما يعني أن الترجمة الحرفية للمقال الإخباري الأساسي كانت أفضل.

إرهابيون أم معارضة؟
بالإجمال، يُنصح المراسلون إن تواجدوا في المنطقة المعنية، بمراجعة الأخبار الواردة على وكالات الأنباء، مثل أسوشيايتد برس، رويترز أو آي إن بي الهولندية، وإلا قرأنا مثل الخبر الذي نشر في أن آر سي، ويشير إلى أن مئات “الإرهابيين المسلمين” أدينوا في “محاكم سعودية” بتهمة التخطيط “لهجمات إرهابية”.

هذا يعيدنا إلى تحذير لوينديك حول معاني بعض الكلمات في الإطارات المختلفة: فيبدو أن التقرير قبل دون أي سؤال بالعبارات التي استخدمتها الحكومة السعودية في نشر الخبر، ودون أي إشارة إلى الحكم القمعي في السعودية أو واقع أن المحاكم لا تطبق نفس القوانين المطبقة في هولندا. فقد أشير إلى المحاكمين في صحف أخرى على أنهم “معارضون للحكم السعودي”، وهو ما كان يجب أن يدفع المحررين إلى إعادة النظر في إن كانت عبارة “الإرهابيين المسلمين” هي الأكثر ملاءمة في هذا المكان.

السعودية، مصدر الأخبار الغريبة
نادرا ما تنشر الصحف الهولندية على صفحتها الالكترونية أخبارا من السعودية أو عمان أو اليمن. فلعدم اهتمام الساسة الأوروبيين أو الهولنديين بالموضوع، يبدو أن الأمر لا يستحق إرسال مراسل لتغطية ما يحدث في تلك البلدان. فعدا الخبر المذكور آنفا عن المحاكم السعودية والذي نشر في أن آر سي، لم تذكر السعودية إلا مرتين في صحيفة تراو تحت عنوان “أخبار غريبة من الشرق الأوسط”.

فيبدو أنه من المضحك أن تنظم المملكة المسلمة حفل انتخاب ملكة جمال، وبخاصة أن المسابقة تتعلق بالجمال الداخلي.

بالنسبة لي، هذا مثال ممتاز على صعوبة أن يرى محررو الصحف الهولندية الناس في السعودية على أنهم أشخاص ذوو آراء خاصة، يتمتعون بمشاعر يقومون بنشاطات مختلفة: فهم إرهابيون، شيوخ نفط أو شخصيات مضحكة فقط لا غير.

التدوين: الوجه الحقيقي للشرق الأوسط
في قسم مماثل بعنوان “تدوين الشرق الأوسط”، تحاول صحيفة تراو منح لمحة خاطفة لقرائها عن الحياة اليومية لتلك البقعة من الأرض؛ فيكتب المراسلون مقاطع تدوين قصيرة عن حياة الناس المحيطين بهم. هذه لافتة مثيرة للاهتمام بعيدا عن “الأخبار المهمة” للحروب والصراعات السياسية، وتعطي صورة لما تعنيه الأمور في الحياة اليومية، أو ما يحدث رغم الأحداث السياسية. لسوء الحظ، وكما يظهر في قسم التعليقات، نادرا ما يقرأ القراء هذه الأخبار. فتبدو مجرد أمثلة على صعوبة الأوضاع في المنطقة بدلا من أن تكون طريقا لربط الأشخاص ببعضهم.

رأي القراء
ما يثير الاهتمام هو أنه، وبالرغم من أن معظم الصحف لا تتحيز لفريق دون الآخر بصراحة (العرب ضد الغرب، إسرائيل ضد فلسطين…) عدا في الكلمات المستخدمة، نجد القراء يفعلون. كما أن الفروقات مهمة بين تلغراف ودي فلوكسكرانت في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي هي أن الأولى تنشر الأخبار كما تصلها، مثل ما حصل مع كتيب “برايكينغ ذا سايلانس”. أما دي فلوكسكرانت فنشرت ملفا منفصلا عن القضية، حيث جمعت الأخبار بمقالات رأي لناشطين من الجهتين تناقشوا في المواضيع وفي الآراء حول من المحق ومن المخطئ.

أما المفارقة فأن قراء تلغراف، ومعظمهم يؤيدون السياسي اليميني المتطرف غيرت وايلدرز (الشهير في الحكومة الإسرائيلية الحالية)، ينحازون بالكامل لفلسطين. فمعظم ردود الفعل تأتي متعاطفة مع مأساة الشعب المقهور، وتتفهم الغضب الفلسطيني على مستوى شخصي.

من جهة أخرى، يناقش قراء دي فلوكسكرانت، الذين يعتبرون عادة “من اليساريين المتطرفين”، المسألة مطولا ويقدمون آراء مختلفة حول الجدار الفاصل، فالبعض يعتبره “الشريط الأمني” فيما آخرون يرون أنه “جدار الاستعمار غير الشرعي”. لماذا اختارت دي فلوكسكرانت أن تكون منصة “للمتعصبين” من الجهتين، وكيف تخدم قراءها بذلك، يبقى لغزا.

قد يكون أحد الأسباب المحتملة أنهم يخافون ارتكاب أي خطأ في ما يتعلق بهذه القضية الشائكة، فيدعون غيرهم لفعل ذلك.

 

تثقيف السكان الأصليين
أخيرا، نلقي نظرة سريعة على النشاطات الثانوية التي يقوم بها المراسلون والصحافيون. فمن الواضح أن أكثر ما يقلق الصحف هو أن يكتب المتعاونون معها في صحف منافسة، علما أن المال لا يكفي للدفع لعدة مراسلين راتبا كاملا. فمن يعمل براتب غير ثابت يتجه إلى نشاطات أخرى لكسب لقمة العيش، ما قد يتعارض أحيانا مع مهنتهم كصحافيين.

فمثلا، تدير مراسلة تراو في شمال العراق مركزا إعلاميا مع تحضير ورش عمل للصحافيين المحليين. قد يبدو هذا العمل محايدا، لكن كتاباتها وبخاصة في قسم تدوين الشرق الأوسط، تتخللها عبارات “إنهم لا يفهمون بعد” أو “قد تطول الأمور قبل أن…”، ما يظهر عقلية من حضر للتعليم، لا للمراقبة أو الفهم. قد تكون المهنتان جديرتين بالثناء، لكن هذا لا يعني أنهما متجانستان.

في النهاية، لا تنذر حالة الصحف الهولندية الحالية، مع تدني عدد المشتركين والمشاكل المالية التي تواجهها إثر الأزمة الاقتصادية الأخيرة، بقرب حل المشكلات التي طرحها يوريس لوينديك قبل ثلاثة أعوام؛ الحاجة إلى المزيد من الأشخاص، والوقت، والاهتمام لرسم تعقيدات حياة الأشخاص التي تشكل محور الأخبار.

السؤال هنا إن كان هذا سينتج الأخبار التي “تبيع”؟ إنها معضلة قد تكون في الحقيقة محور جميع المشاكل المذكورة في هذا التقرير.

كتب بواسطة

اترك تعليق

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *