متواضعة بين الكبار بريشتها العصامية، مترفعة بين دخلاء الفن بلمستها الإبداعية، متميزة بحسها التشكيلي الـمُلْهِم، إنها السيدة “صليحة مخلوفي” التي استحدثت لنفسها فضاء فنيا متميزا، تحاكي فيه الواقع بلغة تفهمها العين قبل العقل، قِوَامُها حروف ملتهبة الأطراف، مُتَّقِدَةُ المعنى، ناضجة الفكرة ومُتَكَامِلَةُ الـمَبْنى، ما جعل منها فنانة تشكيلية وخطاطة استثنائية، بخطها “اللهيبي” الـمُسْتَحدث وما يعكسه من مُـحاكاة فنية للواقع. نعم إنه الخط اللهيبي، فضاء صليحة في التعبير عن القضايا الإنسانية والاجتماعية باللغة العربية، الفرنسية والأمازيغية.. بأسلوب يجمع بين التاريخ والفن والموعظة، فيحرك الساكن ويوقظ الفاتر من قضايا الأمس، رهانات اليوم وتطلعات الغد، فلا حاضر دون ماضي ولا مستقبل دون حاضر، كل هذا عبرت عنه صليحة بحروف البدايات وحكمة النهايات.
الجزائر | تايم نيوز أوروبا بالعربي | نسيمة طايلب
شكلت العقدة من سوء الخط لدى السيدة صليحة في طفولتها منطلقا لـحكايتها مع الحرف المخطوط، وهي حكاية تجاوزت ثلاثة عقود من التميز، كما أنها تأثرت باطلاعها على كتاب الخطاط السعودي “زين الدين ناجي” الذي تحدث بأسف في مقدمته عن غياب خطاطين معاصرين، وهو ما حز في نفسها وكان أكبر حافر للسيدة صليحة للعزم على استحداث الخط اللهيبي المستوحى من تبخر القيم الإنسانية في ظل العولمة والكونية التي تبددت في ظلها الخصوصية القيمية التي تنهار يوما بعد يوم، نقاط ضعف صليحة في الصغر أصبحت مواضع قوتها في الكبر، وهي التي صارت أستاذة متقاعدة للغة العربية، تحاكي الحرف وتستنطقه، بعدما شغلت منصبها كمدرسة لمدة تقارب ستة عشر سنة (1970-1986)، كما تم تكريمها سنة 1986 كأحسن معلمة على المستوى الوطني، ولعها بالتفنن بالكتابة والخط قادها نحو التكوين في الفنون التشكيلية، وتدريسها لتلاميذ الطور المتوسط ثم الطور الثانوي في مدينة باب الوادي بالجزائر.
أما قصة اللهب في رسومات صليحة، فتعبر عن الأوضاع الانسانية الملتهبة بؤسا وخذلانا، بما فيها تنامي الحروب والصراعات التي ساهمت في اغتصاب الحريات والتعدي على الحقوق الانسانية، غير أن في لهيب رسوماتها شرارة أمل منبعث قوامه أمل بشباب كله طموح على التغيير للأفضل.
يظهر توظيف صليحة للحرف الأمازيغي في محتوى رسوماتها المؤسس على كتابات الإنسان القديم في شمال إفريقيا، والذي عادة ما نجد له تمثلا في المغارات والكهوف بصحراء الجزائر السحرة على شكل خطوط وحفريات تحمل في طياتها قصص الانسان وألغازه التي غادر وبقيت مجهولة؛ وقد أنجزت الخطاطة الجزائرية أكثر من 1200 لوحة فنية بمختلف لغات الدول التي تزورها (عربية، فرنسية، إنجليزية، إسبانية…) لتعكس القيم الإنسانية التي تحملها لوحاتها بلغة المتلقي، وعادة ما تلحقها بكتابات شعرية توطد المعنى وتؤكده. عالمية القيم التي تجسدها في رسوماتها جعلتها تجوب دولا كثيرة، منها ألمانيا، كندا، إسبانيا…. ليبقى حلمها عرض رسوماتها التشكيلية في المملكة العربية السعودية .
الاتقاد المستمر لفتيل أعمالها التشكيلية نابعة من حبها للريشة وايمانها بنبل رسالة الفنان الذي يعد سفيرا لانتمائه، ثقافته، لغته، قيمه ووطنه الذي يتفاخر به أينما حل وارتحل، وفي ذلك قالت: “الفنان هو كل من يحترق كالشمعة فوق الشمعدان، ليضيء بِفَنِّه من حوله في كل مكان”.