بقلم | ضرغام الدباغ –
تواجه تركيا تخطيطاً محكماً من القوى التي لا يسرها نهوض تركيا الحديث، بعد أن كبلتها طيلة 100 عام كاملة باتفاقية جائرة (معاهدة لوزان/ 1923)، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، واليوم تريد قوى سيفر أن تواصل تكبيل تركيا بدون حق، ولكن متى تفهم القوى الجائرة الحقوق …؟ فهذه مجرد كلمات لها استخدام يخدم المصالح السياسية، في آن وأوان ومكان وحسب الحاجة والظروف.
لا شك أن تركيا تحملت وصبرت بما يفوق القدرات الاعتيادية، وفي أحيان أخرى ساعدت للأسف قوى تركية داخلية، المطامع الأجنبية، ولكن لكل وقت ظروفه، وها قد حلت الظروف التي تخرج فيها تركيا من سلاسل معاهد سيفر، وأن تلعب دوراً بقدر استحقاقاتها. ومن المؤكد أن هناك قوى يفيدها هذا الصعود، وأخرى تقف منه بالضد، ووجود أخرى لا تكترث كثيراً وتنتظر تطور المواقف ..!
منذ الحقبة الكمالية (مطلع عهد الجمهورية) اتخذت تركيا سياسات موالية للغرب في كافة مجالات البناء الداخلي وفي السياسة الخارجية، وانظمت لحلف الناتو منذ تأسيسه، بل ومثلت القوة الأكبر فيه بعد الولايات المتحدة، وحتى تمركزت على أراضية أسلحة نووية، وقواعد أمريكية، وقاتلت مع الحلف في حرب كوريا، وساهمت في حملة أفغانستان, ولكن كل ذلك لا يكفي للتعامل مع تركيا تعامل الحليف للحليف … فالتآمر يتخذ أشكالاً مُتعددة علنية وخفية في العمل على تقويض الكيان السياسي فعندما تكون هناك نسائم كردية، يصطفون دون تردد مع الأكراد، وحين تكون هناك رياح المصالح التركية في البحر المتوسط، يصطفون مع اليونان، وحين تكون أعاصير في الحدود الشرقية يصطفون مع أرمينيا .. وحين تقف تركيا مع ليبيا، يصطفون في الجانب المضاد … الأمر واضح جداً ولا يحتاج لتفسير …
لماذا لا ينبغي أن يكون لدولة بحجم تركيا من حيث المساحة (779.452 كم² ) ومجموع الحدود التركية هي (9,848 كم) وإطلالتها على 4 بحار (الأبيض، إيجة، مرمرة، الأسود) بأطوال قدرها 7,816 كيلومتر وبسكان (85 مليون نسمة) إطلالة وحقوق بحرية على البحار وعلى جرف قاري يتناسب هذه المعطيات ..؟ ولكن تعطى هذه المعطيات لدولة أصغر منها وأقل شأنا (سياسيا واقتصاديا) مثل اليونان، بل وحتى لقبرص ..؟ الأمر واضح جداً ولا يحتاج لتفسير …
حسناً نحن نعلم أن تلك القوى لا يسرها أن تكون تركيا دولة مهمة، ولكن معطيات 1918 هي غير معطيات 2020، فهناك مستجدات على كافة الأصعدة، ومن كان ضعيفا ليس محتما أن يبقى ضعيفا إلى الأبد، وإذا كنتم تبحثون عن حلفاء، ألا يجب أن يكون هذا الحلف قوياً …! ولكن وفق المفاهيم الغربية أن الحليف القوي يبحث عن حلفاء أضعف ليتسنى له قيادتهم ..! ولكن القوى الدولية التي تقود العالم من وراء وأمام الستار هي من تقرر أن تكون أي دولة وبأي حجم وأي قدرات ..! وهذه رؤيتها لتركيا القديمة ويريدونها لتركيا الحديثة …! الأمر واضح جداً ولا يحتاج لتفسير
أين تبدأ المشكلة …..؟
المشكلة تبدأ حين تصبح دولة ما بحجم يفوق ما قدر وخطط لها أن تكون، فالعراق مثلاً عام 1918، كان بحجم سكاني 1,800,000 نسمة، بلد فقير لا يمتلك أي شيئ تقريباً، ولكنه عام 2003 كان بلداً يمتلك قدرات اقتصادية كبيرة، وحجم سكاني كبير 30 مليون نسمة، وقدرات صناعية عسكرية ومدنية كبيرة، وقيادة قادرة أن تتخذ قررات كبيرة خارج إرادة القوى العظمى .. ومن حقهم أن يتبؤا مكانة غير تلك القديمة التي لم تعد صالحة موضوعياً، وهنا أصبح الأمر يمثل خطراً(بنظرهم) وينبغي وضع حد لهذا التطور الذي يحمل في طياته احتمالات غير مرغوبة، فكان ما كان.
هذا الأمر يتكرر بصورة أو بأخرى مع تركيا … فكافة المشاكل الحالية لم تكن مثارة قبل 30 عاماً فقط، ولكن تركيا منذ القرن الواحد والعشرين والألفية الثالثة بدأت تظهر بملامح ومرتسمات سطحية ظاهرة، وأخرى عميقة كامنة وواعدة جديدة، بأقتصاد يتعملق، ويكاد يدخل نادي الدول الصناعية الثمانية، وبقوة عسكرية هم أرادوا لها أن تكون كبيرة ولكن لتلعب لصالحهم، لا أن تلعب لصالح بلادهم وشعبهم .. بمعنى أن يعملوا حراساً لحدود حلفهم تجاه أعداءهم لا أن يكونوا شركاء ..
الآن يريدون مواصلة بقاء الكيان التركي بقدر ما يلبي حاجتهم، أو بالاحرى بقدر ما لا يشكل منافسا لهم … أو قوة خارج السيطرة، قوة تلعب لصالحنا … ولكن لماذا هذه الرؤية الأحادية الجانب ..؟ لا يشاهدون فيها إلا مصالحهم، هذه رؤية في تقسيم العالم … العالم وفق تصورهم هو أوربا وضفة الأطلسي المقابلة (الولايات المتحدة)، وكندا واستراليا ونيوزيلندة وهذه كيانات أنكلوسكسون تابعة لبريطانيا، ومسموح لها أن تكبر وأن تلعب ..في حدود الملعب . اليابان تلعب دور الرديف الآسيوي، أما الصين فهو الحصان الذي أفلت من قيوده وها هو يخلق لهم الآن مشكلة، كان قد تنبأ بها تشرشل المقاتل الأستعماري منذ عام 1945 وكان برأيه ينبغي ترويض الصين منذ ذلك الحين، أما الآن فالتنين الصيني أصبح تنيناً حقيقياً، ويلعب بمهارة في كافة أرجاء الملعب.
إذا كان الإسلام لا يرضيهم، وهم آيديولوجياً أقرب إلى النظم الرأسمالية، والأنظمة القومية تخيفهم، وحتى أنظمة ملكية القريبة منهم يتآمرون عليها .. والدولة التركية حليفة لهم في الناتو شاركت في افراحهم وأتراحهم : حرب كوريا وأفغانستان، وكوسوفو، وعضو مرشح للأتحاد الأوربي، والنظام دستوريا هو رأسمالي علماني، ومع ذلك لا يرضيهم، لدرجة التآمر العلني عليه، بل لدرجة الذهاب إلى صراعات مسلحة معه … فعلاً عجيب .. فماذا يريدون ..؟
سأقول شيئا ربما لا يعرفه الكثير من القراء في الوطن العربي ..! أن الأتحاد الأوربي هو كيان مقترح تقوده فرنسا سياسياً وعسكرياً، وألمانيا اقتصادياً، بهدف السيطرة التامة على أوربا.
الناتو كان موجهاً ضد الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية، ولكن اليوم لم يعد هناك اتحاد سوفيتي ولا شيوعية، ماذا يخيفهم وماذا يخشون …؟ يبدو أن روسيا بالنسبة لهم إشكالية، سواء إن حكمها حزب اشتراكي أو رأسمالي أو غير ذلك … لماذا ..؟ ترى هل تلعب الأرثودوكسية كقضية طائفية دوراً في القضية … البعض يقول نعم، أم أن التوسع هو الهاجس الأول والأخير .. والروس يعرفون جيداً خرائط أوربا الشرقية والغربية، وعقلية الأوربيين، والطرق السالكة وغير السالكة، ويعرفون بل يجيدون اللعب على التناقضات، وألعاب ما وراء الكواليس. كل الأطراف ستلجأ إلى كسب الحلفاء في عالم لا يقبل بك محايداً تتفرج وتنعم بالسلام، السلام السويسري مقبول وكذلك السويدي، وليس أكثر ..!
تركيا تظهر قدرات سياسية / عسكرية غير اعتيادية، تظهر قدرات دولة عظمى … فهي تدير عمليات سياسية وعسكرية في :
ــ ساحة عمليات بحر إيجة والأبيض المتوسط
ــ ساحة عمليات البحر الأسود.
ــ ساحة العمليات الليبية.
ــ ساحة العمليات السورية
ــ ساحة العمليات ضد المتمردين وشمال العراق.
ــ ساحة عمليات أذربيجان
ولا تخفي تركيا أنها تريد أن تكون الكيان الجامع للشعوب التركية، التي تمتد من بحار مرمرة وإيجة والمتوسط والأسود، وبحر قزوين حتى الصين، كيان سيكون عازل بين روسيا والشرق الأوسط، الغرب لا يفضل رؤية كياناً قويا كهذا، ولكن إذا كان في الأمر ما يحبط خطط الصين أو روسيا … فهنا يصبح الأمر يستحق التأمل … ولكن بين الدول الغربية من أقفل عقله ومداركه ضد العرب وضد المسلمين … مالعمل … القضية كبيرة وتستحق موقفاً كبيراً .. وسوف تتغير استراتيجيات.
على الأرجح أن الولايات المتحدة تتفهم المتغيرات، واستراتيجيوها يفكرون بالمصالح فقط، وبمعطيات الواقع المادي الموضوعي، ويعملون بدون محرمات (Taboo)، فيما تتداخل في أفكار الأوربيين مفاهيم الديانة والطائفة والأثنيات ومستحقاتها..الخ … وظلال التاريخ والذكريات.
وتشير أحدث المستجدات، أن هذا الكيان التركي قد اجتاز مرحلة التشاور وسيتخذ شكله النهائي قريبا، بصيغة : تحالف/ تجمع دول، منصة تعاون سيضم مبدئياً : تركيا، أذربيجان، جورجيا، وقد وافقت روسيا الانظمام إليه، وقد دعيت أرمينيا إليه ..