كتبت : حنان فهمي
في صباح شتوي بارد، جلست “زينة” على أرض غُرفتها، تبحث في شنطة والدتها المتوفية . . تلك الشنطة الجلدية السوداء التي لم تفتحها من سنين طويلة، وكانت والدتها تحتفظ فيها بجميع الوثائق المهمة للعائلة.
كانت زينة بحاجة ماسة إلى إستخراج شهادات وفاة والديها لإتمام إجراءات الحصول على المعاش بعد أن طلقها زوجها وتركها مع أطفالها دون أي دعم مالي . . فتحت الشنطة ببطء، خرجت منها رائحة الورق القديم والعطر الهادئ الذي ذكّرها برائحة والدتها.
بدأت تقلب في الأوراق، فوجدت شهادات ميلادها القديمة وشهادة ميلاد لشقيقها الأكبر، وبعض الشهادات الدراسية التي حفظتها والدتها بحرص. بينما كانت تبحث، وقعت عيناها على عقد بيع منزلهم القديم، ذلك المنزل الكبير الذي عاشوا فيه جميعًا حتى وفاة والدها، وتذكرت اليوم الذي قرر فيه شقيقها الأكبر بيعه.
عاد بها الزمن إلى اللحظة التي فقدت فيها والدها، حين كان عمرها سبعة عشر عامًا. والدها الذي كان يغمرها بحنانه و يدللها ويناديها دائما بـ”مليكتي الصغيرة”، تذكرت كيف كانت تجلس في حضنه وتشعر بالأمان، وذلك المنزل الذي كان يعج بالفرح والحياة. لكن بعد وفاته، تغير كل شيء. تولى شقيقها الأكبر، “سامر”، زمام الأمور، وبدأ يتحدث عن ضرورة بيع المنزل، بحجة أن تكاليف الصيانة مرتفعة وأن والدتهما التي دخلت سن المعاش لم تعد قادرة على تحمل تلك المصاريف.
تذكرت “زينة” اليوم الذي تم فيه بيع المنزل، وكيف وقفت عند بابه تشاهد الأثاث يُحمل على الشاحنات، فيما كانت والدتها تبدو مُستسلمة وغير قادرة على الاعتراض. شعرت زينة حينها وكأن جزءًا من حياتها يُسحب بعيدًا عنها. لم تكن قد بلغت السن القانوني بعد، لذا لم يكن بإمكانها مُعارضة قرار شقيقها.
بعد بيع المنزل، استولى “سامر”على ثمنه بالكامل، ووعدهم بأنه سيستثمر المال لصالح العائلة، لكنها لم ترَ من تلك الأموال شيئًا. بين الأوراق، وجدت صورة قديمة للعائلة في الحديقة الكبيرة للمنزل. الصورة تُظهر والدها جالسًا على كرسي في وسط الحديقة، ووالدتها تقف بجانبه مُبتسمة، بينما كانت هي وسامر يلعبان بالقُرب منهما.
أغمضت زينة عينيها، فتدفقت الذكريات في ذهنها؛ تلك الأيام التي كانت فيها الحديقة تزدهر بالأشجار المورقة والأصوات السعيدة. تذكرت كيف كانت تركض بين الأشجار وتلعب مع شقيقها، بينما كانت والدتها تحضر لهم الحلوى وتراقبهم بفرح. لكن تذكرت أيضًا الأوقات العصيبة التي جاءت بعد وفاة والدها.
تغير سامر، وأصبح يتصرف بغموض، ويبتعد شيئًا فشيئًا عن الأسرة. تزايدت التوترات بينهما، خاصة عندما عارضت بشدة بيع المنزل، إلا أن رأيها لم يؤخذ بعين الاعتبار. كانت في نظرهم مُجرد طفلة لا يُسمح لها بإبداء الرأي.
استمرت زينة في التنقيب بين الوثائق، فوجدت رسالة قديمة مرسلة إلى والدها، كانت من أحد أصدقاء العائلة، يطالبه فيها بسداد ما تبقى من ثمن الأرض الزراعية. لم تكن زينة على علم بوجود تلك الأرض، فقد كانت تعتقد أن والدها لم يمتلك شيئًا آخر غير هذا المنزل. جعلها هذا الاكتشاف تتساءل: هل كانت هناك أمور مخفية تحيط بعائلتها لم تُكشف لها بعد؟
وواصلت البحث بين الأوراق . . .