يا عائشة

يَا ‌عَائِشَةُ، قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ

كتب | د. عادل حسن الحمد

التَّرْبِيَةُ بالقدوةِ مِنْ أهَمِّ وسائلِ التَّرْبِيَةِ، وإتقانُ فَنِّ السُّؤالِ نِصْفُ العِلم، ودِقَّةُ المُلاحَظةِ عِندَ طالبِ العلمِ تفتحُ لَهُ آفاقَ العلم ليسألَ عَنْهَا؛ وكلُّ هَذَا قَدْ توفَّر لأمِّنا عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، مَعَ صِغَرِ سِنِّها، وقُوَّةِ حافِظِتها، ممَّا جعلها مرجعَ الصَّحَابَةِ فِي العلمِ، ومعرفةِ أحوالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمَنْ دَرَسَ ما رَوَتهُ عَائِشَةُ مِنَ الأحاديثِ النَّبَوِيَّةِ يُلِمُّ بجوانبِ حياةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بيتِهِ وفِي خارجِ بيتِهِ، كَمَا يُلِمُّ بجوانبِ العِلمِ المختلفةِ الَّتِي أخْبَرَ عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا موقفٌ مِنَ المواقفِ الكَثيرةِ الدَّالَّةِ عَلَى فِطْنَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وحِرصِها عَلَى تَعلُّمِ العلمِ، كَمَا يَدلُّ عَلَى جوانبِ تَرْبِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ))، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تُكْثِرُ أَنْ تَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ، هَلْ تَخْشَى؟ قَالَ: ((وَمَا يُؤَمِّنُنِي ‌يَا ‌عَائِشَةُ، وَقُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقَلِّبَ قَلْبَ عَبْدٍ لَهُ قَلَّبَهُ)). (رواه أحمد)
إنَّ مِنْ أهَمِّ مَا تحتاجُهُ الزَّوْجَةُ فِي بَيتِها: قائدًا قُدوةً يَقُودُ الأُسْرَةَ بأفعالِهِ وهَديهِ قَبْلَ أقوالِهِ وتَنْظِيرِهِ. ولَنْ نَجِدَ مِثالًا يُحتَذَى بِهِ أروعَ ولا أفضَلَ مِنْ تَعاملِ نَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أهلِ بيتِهِ. فَقَد كانَ يُرَبِّي زوجاتهِ بأفعالهِ قَبْلَ أقوالِهِ.
وفي هَذَا الموقفِ عدَّّةُ جوانبَ تَربَوِيَّةٍ:
مِنْهَا: دِقَّةُ الملاحظةُ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. فقدِ انتَبَهت إِلَى كثرةِ تَرْدِيدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذا الدُّعَاءِ: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ)). ولَا يُمكنُ أنْ يُكَرِّرَهُ ويُكثرَ مِنْهُ إلَّا لأهمِّيتِهِ، ولذلكَ تَوجَهت بالسُّؤالِ لَهُ عَنْ سرِّ تردِيدِهِ لهذا الدُّعاءِ.
وهكذا يَنبغِي للمرأةِ أنْ تنتَبِهَ لمَا يَكثُرُ تِردادَهُ مِنْ حَولِها، فقد يكونُ مِنَ الخَيرِ الَّذِي يُعرضُ لَهَا، وقد يكونُ مِنَ الشَّرِ الَّذِي يُراد إفسادُهَا بِهِ.
وقَدْ سَلَكَ الإِعلامُ المُعاصِرُ هَذِهِ الطَّريقةَ لإفسادِ نساءِ الأُمَّةِ، بِتكرارِهِ لما يُريدُ أنْ يَفرِضَهُ عَلَى المجتمعِ.
وسبيلُ مُقاوَمَةِ ذلك بتكرارِ الحقِّ ونشرِهِ بَيْنَ النَّاسِ، فإنَّ الحقَّ لَهُ نُورٌ يَطمسُ اللهُ بِهِ الباطلَ، قَالَ تعالى: (بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ‌ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء: 18] ومنها: المعانِي العظيمةُ الَّتِي اشتملها هَذَا الدُّعَاءُ النَّبَوِيُّ الَّذِي كان يُكثرُ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ففيه: عدمُ الاغترار بالنَّفسِ والركونِ إِلَى صلاحها، وطلبُ الثَّبَاتِ مِنَ الله عزَّ وجلَّ.
وفيه: إظهارُ الافتقارِ إِلَى اللهِ، والإلحاحُ عَلَيْهِ بتثبيتِ القلبِ عَلَى الطَّاعةِ.
وفيه: بيانُ طبيعةِ القلوبِ وأنَّها سريعةُ التَّقَلُبِ. والموفَّقُ من ثبَّتَ اللهُ قلبَهُ عَلَى الإيمانِ.
وفيهِ: سُؤالُ اللهِ الثَّباتَ عَلَى الطَّاعةِ والإيمانِ إِلَى المماتِ، والخوفُ مِنَ الانتكاسةِ.
ومِنْهَا: أنَّ السُّؤالَ وسيلةٌ مِنْ وسائلِ التَّعلُّمِ، فَمَنْ وُفِّقَ لَهُ فهو الموَفَّقُ. وقد قَالَ الحسنُ البصريُ: حُسْنُ السُّؤالِ نِصفُ العلمِ. وعدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّؤالَ مِنْ طلبِ العلمِ الَّذِي تتفاعلُ معه ملائكةُ الرَّحمن، فعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى بُرْدٍ لَهُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي جِئْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَقَالَ: ((مَرْحَبًا بطالبِ الْعِلْمِ، طَالِبُ الْعِلْمِ لَتَحُفُّهُ الْمَلائِكَةُ وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ حُبِّهِمْ لِمَا يَطْلُبُ، فَمَا جِئْتَ تَطْلُبُ؟))، قَالَ: قَالَ صَفْوَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا نَزَالُ نُسَافِرُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَأَفْتِنَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: «ثَلاثَةُ أَيَّامٍ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِلْمُقِيمِ)). (رواه الطبراني)
وقَدْ وُفِّقَت عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي هَذَا الباب، فكانت تسألُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ ما تجهلُهُ. ولو تَتَبَّعنا أسئِلةَ عَائِشَةَ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجدنا الشيءَ الكثيرَ الَّذِي يصلحُ أنْ يُفردَ فِي كتابٍ.
ومنها: خوفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَقَلُّبِ قَلبهُ. قَالَ ابنُ حَجَرٍ رحمه الله: ((وَخَصَّ نَفْسَهُ بِالذِّكْرِ إِعْلَامًا بِأَنَّ نَفْسَهُ الزَّكِيَّةَ إِذَا كَانَتْ مُفْتَقِرَةً إِلَى أَنْ تَلْجَأَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَافْتِقَارُ غَيرِهَا مِمَّنْ هُوَ دونه أَحَقُّ بذلك)). (فتح الباري 13/377)
وَهَذَا الخَوفُ مِنْ تَقَلُّبِ القُلوب هُوَ خُلُقُ الأنْبِياءِ مِنْ قَبْل، فهَذَا إبراهيمُ عَلَيْهِ السلام، الَّذِي حطَّمَ الأصْنامَ، يَخافُ عَلَى نفسهِ وبنيِهِ مِنْ عِبادَتِها، فيقولُ الله عنه: )وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ‌ٱلۡأَصۡنَامَ) [إبراهيم: 35]، فَغَيرُ الأنبياءِ مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَخافوا عَلَى تَقَلُّبِ قُلوبِهم.

فَهَذَا موقفٌ واحدٌ يُرَبِّي عَائِشَةَ عَلَى هَذِهِ المعانِي العَظيمَةِ؛ فتَتَأسََّى بالنَّبِيِّ فِي تَضرُّعِهِ، وفِي اختياراتهِ مِنَ الدُّعَاءِ، وفِي الإلحاحِ فِي الدُّعَاءِ، وفِي الخوفِ مِنْ تَقَلُّبِ القُلوبِ.
فكيفَ بالعيشِ بَقيَّةَ حياتِهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المُرَبِّي العظيمِ لهذه الأُمَّةِ؟!

فَهَلَّا انتَبهَ الأزواجُ إِلَى الطَّريقةِ النَّبَوِيَّةِ فِي تَرْبِيَة الزَّوْجَةِ؟
وَهَلَّا انتبهتِ الزَّوْجَةُ إِلَى النِّعمَةِ العظيمةِ بِزَواجِها مِنَ الرَّجُلِ الصَّالحِ، والاقتِداءِ بِهِ فِي صَلاحِهِ قَبْلَ أنْ تَفقِدَهُ؟
نُكْمِلُ غَدًا إنْ شَاءَ اللهُ
والحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين

السبت/ 12 رمضان 1442هـ

عن غرفة الأخبار

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

شاهد أيضاً

تصاعد كراهية المسلمين في أوروبا

أكدت الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا (PACE) في 15 مارس 2024، الزيادة المستمرة في مظاهر الإسلاموفوبيا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *