القائمة

دموعٌ في المنيا… ومواطنةٌ مُعلّقة

غرفة الأخبار يومين مضت 0 6.7 ألف

تعود الأيام لتُذكّرنا أن الماضي لم يرحل بعد.
تعود برائحة الرماد والمحاصيل المحروقة والمنازل المُدَمرة ودموع العائلات المقهورة.
في قرية صغيرة بمحافظة المنيا، في صعيد مصر، اشتعل الشر من مجرّد إشاعة.
شائعةٌ واحدة كانت كافية لتدمير منزلها ومنازل ماسر مسيحية أخري في القرية، ونهب ممتلكاتها، وحرق محاصيلها بل ونفيها من مسقط راس أجدادها. حدث كل ذلك تحت أنظار جيرانٍ عاشوا معهم دهرًا من الجيرة والمودة.
المشهد كان صادمًا:
المسيرات التي رأيناها تضامنًا مع أهل غزة في وجه التهجير،
عادت اليوم احتفالًا بتهجير إخوتهم في الله والوطن من الأقباط.

أيُّ مفارقةٍ هذه؟ وأيُّ قلبٍ يحتمل أن يرى الفرح يُقام على أنقاض بيوت الأبرياء؟
أربعون عامًا مرّت، لكن الزمن في مصر يبدو متجمدًا.
فما زال القبطي يُعامل كغريبٍ في وطنه، وكأنّ المواطنة امتيازٌ لا حقّ.
أتذكّر سنوات دراستي في الثمانينيات، حين كُنت طالبًا في مدينة أسيوط.
كانت سنواتٍ مضطربة، يخيّم عليها الخوف والريبة.
آنذاك، تمدّدت التيارات الإسلامية السياسية المتصارعة في الجامعات والمساجد والميادين العامة والشوارع، وتحول بعض أتباعه إلى جماعاتٍ متطرفةٍ دموية لا ترى في المسيحيين سوى هدفٍ مشروعٍ لغضبها من وسخطها علي الدولة والمجتمع بل والعالم والحياة.

أتذكّر جيدًا حادثةً مأساوية، حين انتشرت شائعة عن صداقة بين شابٍ مسيحي وفتاةٍ مسلمة، فهاجموه في بيته وقتلوه بلا رحمة. لم يكن هناك قانونٌ ولا عدالة، بل فقط جموعٌ غاضبة تحكم باسم الله.
ما لم يدرِه هؤلاء القتلة هو أنّ ذلك الشاب المسيحي كان يعتني بزميلته وكأنها أخت له بناءً على طلب عمّها، الذي كان جاراً وصديقًا مقربًا لأسرة الضحية.
واليوم، بعد أربعة عقود، أرى المشهد نفسه يتكرّر بأسماءٍ جديدة وأساليب أكثر قسوة.
الافتراء أصبح تجارة، والإشاعة سلاحًا، والترهيب وسيلةً للابتزاز.
فما إن تنتشر شائعة عن شابٍ قبطي حتى تنهال التهديدات، وتحرق المحاصيل والبيوت،
ثم يتم عقد ما يٌسمّى بـ “الجلسة العرفية” لتُغلِق الملف وكأن شيئًا لم يكن.
لكن أيُّ عدالةٍ تلك التي تُقام في الظلّ؟
وأيُّ سلامٍ هذا الذي يُفرض على حساب المظلومين؟

في قرية “الجلف” بالمنيا، عُقدت مؤخرًا جلسةٌ من هذا النوع.
جلسةٌ لم تحضرها الأسرة المتضرّرة أصلًا، ومع ذلك صدرت عنها أحكامٌ قاسية،
وغراماتٌ مالية باهظة بلغت مليون جنيه مصري، وتهديداتٌ مبطّنة لمن يرفض “الصلح”.
حتى من دمروا البيوت وأحرقوا الأراضي لم يُعاقَبوا، وكأنّ الجرم الذي رأيناه لا ضحية له.
لقد قال قداسة البابا شنودة الثالث، في أوج محن الأقباط في الماضي::
.”نُسلّم الحكم لله وحده”
كان ذلك في زمنٍ كانت فيه الكنائس تُحرق والدولة تصمت.
علّمنا أن العدالة الإلهية آتية لا محالة، حتى إن غابت عدالة الأرض.
لكن الإيمان، مهما كان عميقًا، لا يُعفي المجتمع من واجبه الأخلاقي.
ما حدث في المنيا ليس حادثًا فرديًا، بل عرضٌ لمرضٍ اجتماعيٍ عميق.
مرضٍ اسمه غياب دولة القانون.
حين تُستبدل المحاكم بجلساتٍ قبلية، وحين يُعامل المواطن على أساس دينه لا إنسانيته، تنهار أسس الدولة ويُفتح الباب للفوضى والكراهية.
ورغم هذا الظلام، لا يزال هناك نور.
أصواتٌ وطنيةٌ مسلمةٌ حرّة دافعت عن الأسرة القبطية، ورفضت الجلسة العرفية، وطالبت بالعدالة أمام القضاء.
محامون وحقوقيون وإعلاميون قالوا بوضوح:
“القضية ليست قضية دين، بل قضية إنسان وكرامة وعدل”
هؤلاء هم وجه مصر الحقيقي — مصر التي ما زالت قادرة على النهوض من رمادها.
بوصفي قبطياً عشت تلك التحولات، أشعر أن عليّ أن أكتب، أن أتكلم، أن أشهد
لأن الصمت تواطؤ، والخوف شريكٌ في الجريمة.
ما يحدث اليوم ليس قدرًا، بل نتيجةُ سكوتنا الطويل.
حان الوقت لنقول:: كفى
كفى تبريراً، كفى تزويرًا باسم “الوحدة الوطنية”، وكفى تجاهلًا لألمٍ يتكرر منذ قرون
أحلم بمصرٍ لا يشعر فيها أحدٌ بالغربة.
مصرٍ يكون فيها الصليب والهلال رمزَين متجاورَين لا متقابلَين،
مصرٍ لا تُقاس فيها المواطنة بالدين بل بالإنسانية.
أحلم بقرى المنيا وقد عادت لتزدهر لا لتحترق.
إن ما حدث في المنيا يجب ألا يُختزل في خبرٍ عابر,
إنه مرآةٌ تعكس واقعًا يحتاج إلى إصلاحٍ جذري..
فحين يُترك الظلم بلا عقاب، تموت روح الأمة.
وما من نهضةٍ حقيقية دون عدلٍ يساوي بين المصريين جميعًا — مسلمين كانوا أم مسيحيين.
العدالة ليست ترفًا، بل شرط البقاء؟
ومن يرضى بالظلم اليوم، سيذوق مرارته غدا.ً

  • ماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية وخبير في السياسات العامة

كاتب

  • تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

كتب بواسطة

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

اترك تعليق

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *