بقلم: ضحى أحمد الباسوسي
ذلك الذي حمل قلبًا هشاً كجناح الطائر، يرفرف بين أحلامٍ لا موطن لها وأماني تقتات على الريح. عاش عمره يراقب الأفق، يظن أن السماء حضنٌ لا يخون، وأن الغيماتِ ستفتح أبوابها يومًا لتسكنه. لكنه اكتشف أن السماء واسعة، لكنها بلا صدرٍ يحتضن، وأن الغيم لا يحمله بل يمرُّ به عابرًا كالغريب.
كان ذلك الذي كسرته الأيام، فأعاد ترتيب شظاياه على هيئة أجنحة، يحلّق بها بحثاً عن وطنٍ يأويه. لكنه حين حلّق، أدرك أن الهواء لا ذاكرة له، وأنه مهما دار، سيبقى ظلّه وحيدًا يتبعه على الأرض دون أن يُسبقه. أضناه الطيران في فضاءٍ لا حدود له، حيث كل الجهات تؤدي إلى اللاشيء. كان يُحدّث نفسه: “لِمَ كل الطيور تعود، وأنا تائهٌ في هذا الكون كأنني فكرةٌ شاردة؟” رأى العصافير تبني أعشاشها فوق الأشجار، والحمام يَلوذ إلى قبب المساجد، حتى العاصفة تُعيد الغبار إلى الأرض، أما هو، فقد كانت رحلته أبدية، ليس لأنه يريدها كذلك، بل لأن قدميه لا تعرفان طين الأرض ولا ألفت عيناه جدران البيوت. حين تحدث، قال إن نصيبه في الدنيا كنصيب الطير، لكنه ما لبث أن وجد أن حتى الطيور تُجيد العودة، تُغني للوطن، تبكي على أغصانه.
أما هو، فكان صوته خافتاً، وجناحاه لا يميزان بين طريق الذهاب والإياب. “هل أُدركتُ بالعجز؟ أم أنني خُلقتُ بلا وطنٍ ولا وجهة؟” سأل الريح، لكنها لم تُجب سوى بالهمس، وتركته يُحلق في فراغه. ذلك الذي لا يعرف الاستقرار، قلبه أشبه بزورقٍ صغير في بحرٍ لا يعترف بالسكون. تحيط به الأمواج، تداعبه أحياناً وتلقيه بعيدًا أحياناً أخرى، لكنه يظل وحيدًا، بلا ميناء يُعلن انتهاء الرحلة. أراد أن يكون كالطير، بسيطاً في حياته، غنيًا بحريته، لكنه نسي أن الحرية بلا وطن شتاتٌ، وأن الطيران بلا غاية سقوطٌ. هكذا، ظلّ ذلك الذي لا بيت له سوى السماء، ولا جدران له سوى الحلم. يرسم بجناحيه مساراتٍ لا تُرى، ويزرع في الفضاء قصائد من صمته، وكأنّه يكتب وصيته الأخيرة للريح: “احمليني إلى حيث يشبهني الوجود، إلى حيث ينتهي كل هذا التيه، إلى وطنٍ ليس له اسمٌ بعد.”