صورة تعبيرية لبعض وسائل الاعلام فى هولندا

تجربة هولندا الإعلامية في الديمقراطية وضعت أساس حُرية الصحافة

كتب | سعيد السبكي

لقد خرجت هولندا من ويلات الحرب العالمية الثانية واستعمار ألمانيا لأراضيها بتجارب ثورية متنوعة، استفادت بها وطوّرتها في كافة مؤسساتها الإدارية والتعليمية، وانعكس هذا الأمر في شكل وضع إطار ديمقراطي فريد من نوعه في العالم، لدفع حرية الصحافة وتقدمها لخدمة مصالح هولندا السياسية والاقتصادية، وكانت البداية الحقيقية في إطلاق حرية إنشاء المؤسسات والجمعيات الأهلية في كافة المجالات، ووضع قوانين تسمح لها بممارسة أنشطة إعلامية، راعت فيها حقوق الإنسان والأسس الديمقراطية، ووفرت لها الحماية الحكومية والحصانة الدستورية، وبمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة نتعرض للتجربة الهولندية، بما لها وما عليها في مجال حرية الصحافة، فهي تجربة ثرية تعتمد على الحوار الديمقراطي بالدرجة الأولى، وهي تجربة ليست بمعزل عن المؤسسات التعليمية المتنوعة التي تربي الأطفال منذ نعومة أظفارهم على مفاهيم الحريات كحقوق طبيعية للإنسان، ونقول «تربي»، ولا نستخدم مفرد التعليم أو التلقين.

وهي أيضاً ليست منفصلة عن النقابات المهنية والروابط المتخصصة، التي تتبنى مثل هذه الحقوق وتعمل على تنفيذها وتطويرها، وتراقب مساراتها حتى لا تُنتقص بقانون ظالم أوقرارات مجحفة، فكل هذا وغيره هو لبنات وإفرازات تخرج مهنيين مؤمنين بحرية الصحافة قولاً وعملاً. المؤسسات التعليمية يستطيع أي مواطن في هولندا تأسيس كافة أنواع المؤسسات التربوية والتعليمية، من دار الحضانة مروراً بالمدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية والمعاهد العلمية العُليا المتخصصة والجامعات، بشرط الالتزام بنصوص القانون وروح الدستور الذي ينظم عملية التعليم، ويمنح القانون لأصحاب المقدرة بالإعلان عن مشروعهم التعليمي، بإصدار نشرات أو صحف يومية أو دورية، وتوزيعها على الجماهير، وكذلك إقامة الندوات والمؤتمرات والاجتماعات ـ دون الحصول على تصريح مُسبق من السلطات الأمنية ـ للإعلان عن المشروع وإعلام الآخرين بأهدافه وفكرته، ومن هذا الواقع نجد الدستور الهولندي سمح للأفراد والمؤسسات الأهلية بالآتي:

ـ حرية تأسيس دور العلم. ـ حرية النشر بكافة أنواعه. ـ حرية الاجتماع والمخاطبة. هذه الحريات جعلت من عملية وضع المناهج التعليمية، وإعداد كوادر إعلامية مؤهلة وفعّالة أمراً ممكناً بحماية وحصانة قانونية، وجعلت أيضاً من الحرية والديمقراطية توأمان ملتصقان لا ينفصلان عن بعضهما البعض. المؤسسات الإعلامية إضافة للقوانين التي تمنح المواطن الهولندي حُرية تأسيس دور النشر، وإصدار الصحف والمطبوعات المتنوعة على أساس تجاري، يعتمد على سياسة السوق ونظام العرض والطلب الذي يُحدد رفض وقبول المتلقي لنوعية المُنتج الإعلامي.

تعرف هولندا نظام الجمعيات الأهلية التي تؤسس وتدير كبريات الصحف والمحطات التلفزيونية، وتحترم حرية تنوع الآراء واختلافها الأيديولوجي والعقائدي، وتستند القوانين الهولندية والمؤسسات التشريعية والنيابية على واقع لا تتراجع عنه، يتمثل في أنه طالما وجدت قواعد جماهيرية لرأي أو نظرية سياسية، معتقد ديني أو روحي، وترغب هذه القواعد في الإعلان عن نفسها، سواء بوسيلتها الإعلامية الخاصة، أو سمحت لها وسيلة إعلامية أخرى بذلك، فلابد من توفير الحرية لها وحمايتها، وهي ـ القوانين الهولندية ـ لا تخشى نزعات التطرف عند بعض المواطنين والجماعات، والمخاطر التي قد تجلبها عمليات استغلال سيئة لمثل هذه الحريات، على مجتمع تريد له الأمن والسلام والاستقرار، فالحكومة ومؤسساتها النيابية والدستورية تقوم بدور المُنافس القوي والعاقل لوأد شرر التطرف في مهده، وهي تفعل ذلك بالسلم وكسب مؤيدين لها من القواعد الجماهيرية العريضة، وليس بقوانين طواريء أو بالقهر أو بالدولة البوليسية.

نموذج لحرية الإعلام التلفزيوني المواطن الهولندي يعتبر صمام أمن فعّال يشارك في تأسيس كبريات المحطات التلفزيونية باعتبارها أقوى وسيلة إعلامية عرفها العصر الحديث حتى «ظهور ثورة عالم الانترنت»، فهو يحدد خروجها للوجود، وزمن الإرسال اليومي، وضبط معايير ومسارات توجهاتها الإعلامية، ويستطيع وضع نهايتها، وكل ذلك يحدث بهدوء وأسلوب ديمقراطي متميز، ويتحدد وفق منظومة قانونية عامة، حيث إن مجلس إدارة الجمعية الأهلية يكون قد أقام المحطة التلفزيونية بعد توافر عدد من الأعضاء، وكلما زاد عدد هؤلاء الأعضاء، بالإضافة للمشتركين في مطبوعة برامج المحطة ـ وهو الأمر الذي يعتبر موافقة على نوعيتها ـ زادت مدة الإرسال، وذلك يتم تقييمه سنوياً ومقارنة عدد أعضاء المحطات ببعضها، بمعرفة لجنة محايدة تضم عناصر من وزارة الثقافة ونواب من المحطات ذاتها.

كما يتم توزيع زمن الإرسال المُخصص لهذه القناة أو تلك، وتحصل كل محطة تلفزيونية على دعم مالي تمنحه وزارة الثقافة، تحدد قيمته تبعاً لعدد الأعضاء، ويقتصر دور الدولة ومؤسساتها القانونية على مراقبة المحطات التلفزيونية للتأكد فقط من إنفاق الدعم في القنوات المخصصة له، وعدم ارتكاب المخالفات القانونية، وذلك دون التدخل مطلقاً في سياسة أو نوعية البرامج للمحطة، أو التدخل في توجهات مجلس الإدارة، حيث إن الجمعية العمومية للمؤسسة الأهلية هي فقط المخوّلة في تحديد ذلك أو تعديله، أما الصحافيون العاملون في المؤسسة فلهم الحرية في وضع وتنفيذ البرامج وكيفية ارسالها للمشاهد.

لكنها ليست حرية مطلقة، بمعنى أن محطة تلفزيونية تتبع لمؤسسة تتبنى أفكاراً اشتراكية سوف لا تفسح المجال مثلاً لسياسي ليبرالي وتمنحه حرية عمل دعاية وتنمية للحزب الذي يتبعه ـ الذي لا يجد تأييداً من مجلس إدارة وأعضاء هذه المؤسسة، وهذا الليبرالي لا يعدم فرصة التعبير عن رأيه في وسيلة إعلامية اخرى تتماشى مع أفكار الحزب السياسي الذي يتبعه، وبجانب هذه المحطات المتنوعة توجد مؤسسة تلفزيونية حيادية لا تتبع حزباً سياسياً ولا تنتمي لفكر مؤسساتي أو عقيدة دينية، وهذه المؤسسة تتبع إدارة الدولة لكنها تعمل بحرية صحافية من حيث الأداء المهني، وتقوم ببث النشرات الإخبارية على مدار الساعة، ومن ضمن أعمالها أيضاً تسليط الأضواء على الأحداث القومية العادلة، ومحظور عليها تبني أي وجهة نظر حتى الحكومية.

إعلام هولندا بين الموضوعية والمصالح

الإعلام الهولندي شأنه مثل معظم وسائل الإعلام الغربي فهو حر بدون شك، ويلتزم الموضوعية الشديدة، لكن لحريته قيود، ولمضوعيته خطوط حمراء، يفرضها على نفسه طوعياً، تتمثل في تبني المصالح السياسية والاقتصادية لهولندا أولاً، وثانياً للغرب بصفة عامة، وهو إعلام منضبط في شئونه الهولندية، يسمح لممارسيه بالانفلات مع الغير «قضايا الشرق والعرب خاصة»، وهو إعلام محايد في قضاياه القومية «لكنه منحاز في قضايا أخرى»، وهو إعلام عادل يرعى كافة التوجهات الداخلية لبلاده، لكنه لا يتردد في «الظلم ولي الحقائق في تناول بعض القضايا الخارجية»، وهذه المقارنة تنطلق من المتابعة الدؤوبة لوسائل الإعلام الهولندية، ومتابعة السطور بظاهرها وما وراءها، فلا حرية مطلقة حتى لصحافة تتمتع بحرية أكثر من معظم دول العالم، وهي حريات لها معايير ثابتة وأسس ديمقراطية تسير عليها، تلك الأسس التي تفتقر إليها معظم شعوب الدول العربية، لكن هذه المعايير والأسس قابلة للتغيير والتعديل والتطويع في حالة تعارضها مع المصالح القومية والأمنية الهولندية، وما يرتبط بها سواء مع دولة أو حتى مع فرد واحد.

حرية النشر بمقارنة قوانين النشر العربية بإجراءات تنظيم عملية النشر والإعلام في هولندا باعتبارها من «الدول الغربية»، نجد أن الدول العربية تعتمد بصفة عامة على نظم القوانين الحمائية، التي بنيت على خوف الحكومات من عبث أبنائها في الجبهة الداخلية! وهي من أمراض بارونيا النظم الشمولية التي تعوق حرية الصحافة.

أما في هولندا فنجد أن الأساس هو الثقة في الجماهير وهي ثقة لا تقبل الجدل ولا تقبل الشك، ولا تسمح للمشككين بنيل مآربهم، ونستدل على ذلك بواقع نلمسه، حيث يستطيع أي مواطن في هولندا تأسيس دار نشر، وتجدر الإشارة إلى ان الدستور الهولندي والاجراءات المنظمة تعتبر العمل في مجالات النشر والإعلان من الأعمال المهنية الحرة، التي لا تحتاج لترخيص مزاولة، فالذي يريد ممارسة مهن مثل الحلاقة أو النجارة أو الكهرباء أو الغاز يحتاج لرخصة مزاولة.

أما الناشر فلا يحتاج لمثل هذا الترخيص، ونفهم من ذلك أن الأساس الدستوري هو عدم حجر رأي المواطن، أو مصادرة حريته انطلاقاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي كفل حرية الرأي والتعبير ـ وهو الأمر الذي تسهله وسائل الإعلام ـ ونص على أن إنكار حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ليس مجرد مأساة فردية أو شخصية، بل إنه يؤدي إلى خلق ظروف يشيع فيها الاضطراب الاجتماعي والسياسي، علاوة على ما يغرسه من بذور العنف والصراع داخل المجتمعات والدول وفيما بينها، وان احترام حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية يشكل أساس الحرية والعدالة والسلام في العالم، فهذه هي ضمانات لحرية الصحافة.

حماية الصحافيين في هولندا

كل صحافي في هولندا أو مراسل لمطبوعة غير هولندية، ينتمي لنقابة الصحافيين واتحاد المراسلين الأجانب، وتتوفر له الحماية الكاملة نفسياً وبدنياً، ويتوفر له العمل بدون ضغوط داخلية أو خارجية، وتقف هذه النقابات إلى جانبه تحمي حقوقه المالية من الضياع، وتدافع عنه أمام المؤسسات الصحافية حال تعرضه لقهر نفسي، أو إهدار لحقوقه من حيث التأمينات والتعويضات الاجتماعية، وتحميه من أخطار المهنة مهما كان نوعها، كما أنها لا تدخر وسعاً في تزويده بالمعلومات والفرص التي تساعده على تطوير كفاءته باستمرار، كما تعمل هذه النقابات على دفع المصادر الصحافية الحكومية نحو توفير المعلومات والمستندات التي يتطلبها العمل الصحافي، وذلك بعدالة ودون تفضيل أو تمييز بين صحافي وآخر، فكل هذا وغيره يوفر مناخاً صحياً لحرية الصحافي والصحافة.

  • نشر الكاتب هذا التقرير في 4 مايو 2001

عن غرفة الأخبار

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

شاهد أيضاً

مُسلحين|قتلوا ثلاث قساوسة مصريون في افريقيا

تايم نيوز أوروبا بالعربي -كتب|خالد درة لقي ثلاث رهبان وقساوسة مصريين مصرعهم على يد مسلحين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

EgyptAlgeriaTurkeySaudi ArabiaUnited Arabic EmiratesIraqLibyaMoroccoPalestineTunisia