الكاتبة سماح مبارك

تزويج القاصرات جريمة مُستترة مُستمرة | بالألوان!

بقلم | سماح مبارك

تستعد “منى” ذات الخمسة عشرة سنة (وهو اسم وهمي اخترته لها) للعودة إلى بلد والديها الأصلي في العراق، من العاصمة البريطانية لندن خلال إجازة الأعياد في ديسمبر، لن تسافر منى لزيارة الأهل والأصدقاء كما يدعي والديها، بل ستسافر كي يتم عقد قرانها على ابن عمها” علي” هناك على أن يكتمل الزواج في العطلة الصيفية.

لـ منى شقيق يكبرها بعام واحد ولكن لم أسمع أبداً أنه ينوي الزواج، أو أن هناك ترتيبات معينة له كي يخطب أو يتزوج، في الحقيقة لا أحد من والديه يشغل باله بهذا الموضوع كثيراً فهم يرون أنه مازال صغيراً على الزواج، وأن عليه تأسيس وتكوين نفسه، حتى يجد الفتاة المناسبة له، فهما مقتنعان أن زواج البنت “يسترها” أما زواج الولد فيكون في سن مناسب يستطيع معه “فتح“ بيت وتحمل مسؤوليته.

 يعتبر زواج الفتيات في هذا العمر جريمة في القانون البريطاني، ولكنه لا يمنع أبداً أنه منتشر وبشكل كبير وسط العائلات المحافظة من خلفيات مهاجرة، الكثير من المراهقات يتم ترتيب زواجهن بمجرد بلوغهن، من شباب يكبرنهن في العمر بما يُغرف ب “الزواج المدبر”. مآسي هذا الزواج عديدة وكبيرة وغالباً ما تنتهي بالانفصال حال وصول الزوجة لسن تستطيع معه أخذ قرار الانفصال دون الخوف من رد فعل والديها وأسرتها.

جعلني زواج المراهقة منى أطرح سؤالين اثنين، الأول: لِمَ ينحصر تفكير الأهل بأن لابنتهم الأنثى احتياجات جنسية ونفسية في طور البلوغ والمراهقة لا تُعالج إلا بالتزويج المبكر بكل مسؤولياته، بينما لا تُذكر تلك الاحتياجات بالنسبة للولد الذكر الذي يمر بنفس تلك الاحتياجات؟ والثاني: هل المسؤولية التي سيحملها “الولد” في الزواج تسمح له بالتأخر عن أخذ القرار حتى ينضج، وتكتمل قدرته النفسية والجسدية والعقلية لتحمل عقباته، بينما لا تحتاج الفتاة إلا لدورتها الشهرية كي تتحمل صعوبات الحمل والولادة والتربية والأعمال المنزلية والاجتماعية الشاقة؟

في الحقيقة، يحتاج كلاهما للنضج الجسدي والنفسي للدخول في علاقة أساسها تكوين أسرة وإنجاب أبناء إن رغبا بذلك، فالزواج ليس مجرد عملية جنسية بين شخصين، بل هو توافق شريكين لبدء حياة كاملة بكل أفراحها وأتراحها معاً، وهذا ما ينفيه الزواج من طفلة مطلوب منها أن تمارس الجنس مع شخص يكبرها بأعوام كثيرة تقوم بخدمته ورعايته، بالإضافة لإنجاب أطفال تقوم بتربيتهم حسب خبرتها الضئيلة في الحياة، صحيح أنه وفي بعض المناطق الريفية في عالمنا العربي يتم تزويج الذكور أيضاً في سن مبكرة جداً، ولكنه بشكل أقل مما يحدث مع الإناث، وغالباً ما يُزوج الطفل بطفلة تصغره بينما من الشائع رؤية طفلات زوجات لرجال طاعنين في السن، فتكون الطفلة هزيلة نحيلة تجر خلفها أطفالاً آخرين غالباً ما يكونون لها أو لأحدى “ضراتها” اللاتي يكبرنها بعام أو اثنين! منظر مؤلم لواقع أكثر إيلاما حيث يقف القانون عاجزاً أمام العُرف والتقليد.

لم يعد الفقر أو الجهل أو الحرب هو السبب الوحيد لتزويج القاصرات، بل أن أحد أهم الأسباب هو التعامل الذكوري لمجتمعاتنا مع المرأة التي تعتبر تابع للرجل له حق الولاية والوصاية عليها، يقرر عنها مصير حياتها، وهذا ما يفسر سعي أسرة متعلمة وميسورة الحال كأسرة “منى” على تزويج ابنتهم بحجة حمايتها من العلاقات خارج إطار الزواج إسوة بقريناتها الأوربيات، متجاهلين أن الحل الناجع هو الجلوس مع الأبناء من الجنسين والحديث معهم عن سلبيات الانسياق خلف العواطف والرغبات الجامحة دون تهذيبها، ومعرفة أهمية العلاقات في حياتهم.

ما يزال تزويج القاصرات مستمراً بل وفي ازدياد مطرد، رغم كل الدعوات الحقوقية والطبية لوقفه بسبب أضراره الكارثية مجتمعياً وطبياً على الإناث، فبحسب منظمة اليونيسيف، أن أكثر من ١٥٠ مليون فتاة ستتزوج قبل بلوغها ال ١٨ عاماً بحلول عام ٢٠٣٠ لقد كرست مجتمعاتنا نفسها لترسيخ فكرة الزواج المبكر خوفاً من الوصم المجتمعي للمرأة التي يتأخر زواجها، أطلقوا عليها الألقاب وتجاهلوا إنجازاتها في الحياة مهما بلغت اذا لم تتزوج، بل أنه يتم الربط بين تأخر سن زواج الفتيات وبين انشار الفساد المجتمعي ومعدلات الجريمة والانحراف، تلك الوصمة لا تشغل بال الشباب المتأخرين عن الزواج، فهم ينصحون فقط بالصوم والانشغال بالرياضة، في الواقع، الجميع يفكر بمسؤوليات الشاب المادية ولا أحد يفكر في احتياجاته الفسيولوجية والجنسية، ربما لعلمهم أن الشاب يستطيع إقامة علاقات خارج إطار الزواج دون اكتشاف أمره رغم حرمتها دينياً واجتماعياً، بينما يستحيل على الفتاة ذلك.

يتشنج الجميع عندما نتحدث عن زواج الطفلات بشكل مخيف ويكون الدفاع عن حق “تزويجهن” مسألة دفاع عن العقيدة يُكفر كل من يرفضها أو يستهجنها، وتَصدر رجال الدين المشهد حين اعتبروا الدعوات إلى رفض تزويج القاصرات حرب على الدين الإسلامي ونشروا المقاطع التي يتحدثون فيها بلا خجل عن جواز تزويج الطفلة مادامت تحمل جسداً ممتلأً أو تستحمل “الوطء” متجاهلين تماماً كل الأبحاث الطبية والاجتماعية التي تكشف الأضرار المجتمعية الجسيمة الناتجة عن استغلال الطفلات في علاقات جنسية تحت مسمى الزواج، نحن بحاجة إلى نشر المزيد من الوعي الذي يصلح لزماننا وليس لأزمنة أخرى بمفهوم الزواج والعلاقات الجنسية والصحة الإنجابية وغيرها، وألا نستجيب لتخويف المستفيدين من استمرار هذه الجريمة كي ننقذ المزيد من القاصرات بقوانين أكثر صرامة وفعالية   تضمن حقهن في الحياة والاختيار.

عن غرفة الأخبار

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

شاهد أيضاً

المسكوت عنه

بقلم : يحي سلامة روى لي شاب من أقاربي أنه في أثناء تأديته صلاة الجمعة …

تعليق واحد

  1. فابيولا بدوي

    مقال مهم ويكشف عما يحدث في الواقع، حتى اللحظة تزوج قاصرات في الصعيد المصري لدى الشيوخ ويتم التحايل على القانون وحينما تبلغ السن القانوني بتلاعب اخر يوثق زواجها على اعتباره حديثا … شكرا للكاتبة على تناول هذا الموضوع الذي يحتاج الى تسليط الضوء عليه باستمرار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *