الكاتب سعيد السبكي في موقع مدفن الفيلسوف الهولندي سبينوزا في لاهاي

قوانين تلجم الأفواه وتحطم الأقلام تهدم نفسها بنفسها | سبينوزا فى لاهاي (1)

كتب رئيس تحرير شبكة تايم نيوز | سعيد السبكي

 لاهاي هي عاصمة هولندا السياسية  أو (رسميا، إسخرافن هاخ ، ’s-Gravenhage التي تقع في غرب مملكة هولندا، بمقاطعة جنوب هولندا، ولها دور مهم الى جانب الدور الذي تقوم به العاصمة أمستردام،  ويقيم الملك وولية العهد في مدينة لاهاي، وتوجد بها مقار رئاسة الحكومة والوزرات والبرلمان والمحكمة العليا ومجلس الدولة والبعثات الدبلوماسية الأجنبية.

كما تعتبر لاهاي مركزاً دولياً لمؤسسات صنع سياسة العدل والسلام في العالم، حيث توجد فيها مقار عدد كبير من المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، تماماً مثل مدن كجنيف وفيينا ونيويورك.

وقد لا يتوقع كثير من الناس أن بها مدفن الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا خلف الكنيسة الجديدة وَسَط المدينة أمام مقر المركز الرئيسي لبلدية لاهاي، وقد مررت

الكنيسة الجديدة وسط مدينة لاهاي

مؤخراً فى الحديقة المُلحقة بالكنيسة وتوقفت أمام قبر سبينوزا، ووجدت انه من واجبي القاء الضوء على بعض من جوانب حياة الفيلسوف.

من أشهر أقوال باروخ سبينوزا

أعترف بأنني لا أستطيع أن أكون مُحايداً تماماً لأن تقديسي لحُرية الكلمة يحتل مكانة وقيمة عالية في نفسي، فابدأ بذكر ما قاله سبينوزا عن حُرية الكلمة والرأي:

  ” إن القوانين التى تلجم الأفواه وتحطم الأقلام تهدم نفسها بنفسها ” ياله من قول ثوري من أجل الحُرية، كما قال سبينوزا : إن ميزان الإنسان قلبه، والطموح هو الرغبة المُفرطة فى السُلطة،وان الإرادة والذكاء وجهان لعُملة واحدة،وان الفضيلة الحقيقية هي الحياة تحت توجيه المنطق،”وان الحقيقة معيار ذاتها كالنور يعرف بذاته و به إنسانية يعرف الظلام، وان الإنسان الذي تتحكم به العواطف لا يرى إلا جانباً واحداً من الموقف، .من هذا العقل ينبغي أن ننطلق لكي نؤسس مجتمعا آخر أكثر حرية  إنسانية،  وأن العالم سيكون مكان أسعد لو امتلك الناس قدرة على الصمت بنفس قدرتهم على الكلام.

سبينوزا فيلسوف منبوذ ثائر على منطق الانتماء

ولد سبينوزا في أسرة تنتمي للجماعة اليهودية الإسبانية (الماران) التي اضطرت إلى الارتداد القسري إلى المسيحية، ولكنها واظبت على ممارسة طقوسها في السر. جاره الأقرب كان الرسام الشهير رمبرانت (1606-1669) في حي أمستردام اليهودي، ذلك بأن اليهود كانوا يلجأون إلى أمستردام خوفاً من الاضطهاد، فينعمون بالسلام المدني. غير أنهم كانوا شديدي الحرص على إيمانهم وعقيدتهم، فلم يطيقوا أن ينبري واحد من أبنائهم فيبتدع ويجدد ويجازف في استجلاء وجوه جديدة من الفهم الوجودي. كانت مدن هولندا وجوارها البلجيكي (روتردام، أمستردام، أنفرس، وسواها) تنعت بأرض الحرية يلوذ بها اليهود من جميع الأصقاع، شأنها في ذلك شأن

سبينوزا

البندقية وهامبورغ وليڤورن، وبعض مدن السلطنة العثمانية كإزمير التركية وتسالونيك اليونانية.

يحمل في اسمه دلالة البركة، إذ إن باروخ تعني بالعبرانية المبارك، على نحو بِنديكتس اللاتينية، وهو الاسم الذي طفق يستخدمه في توقيع منشوراته من بعد أن نبذته وكفرته جماعته اليهودية. درس التلمود على علماء اليهودية، لاسيما الحاخام الآتي من البندقية صموئيل لفي مورتيرا (1596-1660)، وما لبث أن أتقن فن تأويل النصوص الدينية، فطفق يتبحر في المصنفات الفلسفية، لا سيما تلك التي أنشأها الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون (1138-1204). في سن الـ 23 نزل عليه حرم السلطات الدينية كالصاعقة يجرده من جميع حقوقه ويجعله منبوذاً حتى الممات. لم تعرف أسباب الحرم الديني هذا، ولكن أغلب الظن أنه عقاب الذين كانوا يجرؤون على مناهضة تعاليم السنة اليهودية والتقليد اللاهوتي المتواتر.

اضطر إلى الهجرة ومغادرة البيئة اليهودية المحافظة وذلك من بعد أن عاين سقوط شهداء الحرية الفلسفية من أقربائه وأصحابه اليهود. يمم شطر مدينة لايدن الهولندية، وأكب يحصل في جامعتها العريقة العلوم الفلسفية من غير أن يهمل العمل اليدوي الحرفي في قطع الزجاج وشطفه وصقله وتضليعه لكي يسد به عوزه اليومي، وما لبث أن أقام في مدينة لاهاي يدرس الفلسفة ويؤلف في مواضيع شتى جعلت شهرته الإلحادية تتنشر بين الناس، مع أنه كان يكتب باللاتينية التي لم يكن يقرؤها سوى أهل النخبة الثقافية. عمد إلى ترصيع يده بخاتم نقشت عليه عبارتان تدلان على منهجه الفكري: على سبيل الحيطة (cauta) والتكتم تحت أعراض السر (sub rosa).

كتب باللاتينية، شأنه شأن مُعاصريه الفلاسفة والأدباء، فألف ضمة من الكتب الفلسفية أشهرها كتاب “الأخلاق وبحث في اللاهوت والسياسة”. غير أن الكتاب الوحيد الذي شهره بعد أن نشره إبان حياته كان “مبادئ فلسفة دكارت”. يأثر عنه أصدقاؤه أن كلماته الأخيرة قبل وفاته جاءت في صيغة الاستسلام الإشكالي إلى المشيئة الإلهية ينسب إليها كل أقواله الابتداعية، “خدمت الله مستنيراً بالأنوار التي قذفها في صدري. كان يمكنني أن أخدمه خدمة مختلفة لو كان قد قذف في صدري أنواراً أخرى”. ذاع صيته الفلسفي في أوروبا فقصده رهط من علماء الزمن ومفكريه، وفي مقدمهم الفيلسوف الألماني لايبنيتس (1646-1716) الذي حيا نبوغه الاستثنائي.

الفكرة تحمل الحقيقة 

مقبرة سبينوزا

يبني سبينوزا عمارته الفلسفية على أساس معرفي يجعل الفكرة تنطوي في أصلها على كامل الحقيقة، من غير الاستعانة بموضوع معرفتها. الفكرة وحدها تحمل الحقيقة بصرف النظر عن الغرض الذي ترتبط به. في مقدم كتاب “الأخلاق” يبين في مقاربة مختلفة أن الفكرة الحق ينبغي أن تتناسب والموضوع الذي تحمله وتنتسب إليه. ليس في هذين القولين أي تناقض، إذ إن نظرية سبينوزا في المعرفة تقوم على عقلانية جذرية مفرطة تعاين انفطار الكائنات كلها على بنية عقلانية لصيقة بها، “إن نظام الأفكار وترابطها هما عينهما نظام الأشياء وترابطها”. ينبثق هذا المبدأ من تصوره الذي يقضي أن صفات الجوهر اللامتناهي وكثرة أحواله اللامتناهية التي تفصح عنه إنما تنشئ كتلاً متوازية، بحيث إن كل حال من الأحوال المتناهية في الأشياء يناسب حالاً من الأحوال المتناهية في الفكر، لذلك كانت الفكرة في الوقت عينه الفكرة الحق والتناسب الملائم بين منطق ترابط الأشياء ومنطق ترابط الأفكار.

عن غرفة الأخبار

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

شاهد أيضاً

الإبادة الفكرية والثقافية

كتب | وائل أبو طالب إن ترسيخ وصناعة الكذب والمعلومات المغلوطة ولا سيما تلك التي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *