بقلم | عبد الصمد الشنتوف
الإثنين صباحا ، استيقظت باكرا وزملائي نيام . صدري تعتريه مشاعر مزدحمة . مشاعر وجع الغربة وغصة الحنين إلى الوطن . قلبي يغمره شوق إلى أمي . لقد افتقدت أهلي وأحبابي ببلدي . إنه اليوم الخامس من أكتوبر ، يوم أسدلت فيه الستار على تجربتي الغنية بالريف الإنجليزي . تجربة اغتراب ، تسكع ، وقطاف التفاح منحتني فرصة قوية لإعادة اكتشاف ذاتي . قرابة ثلاثة أشهر وأنا مغترب بإنجلترا .
عندما أجلس وأحصي حصاد غربتي وأعود بذاكرتي قليلا إلى الوراء ، أكتشف أنني صرت شابا آخر . مرحلة المُعاناة في لندن والعمل بالضيعة صقلت شخصيتي وجعلت مني شخصا مُختلفا ، لم أعد نفس الشخص الذي أتى من المغرب قبل شهور مضت ، اكتسبت أفكارا وقيما جديدة عن ثقافة الشعوب ، صرت أرى العالم من منظور أوسع .
مساحة تصوراتي غدت أكثر رحابة بعد ابتعادي عن محيطي ، مساحة تغذيها شجون وآمال ورؤى جديدة عن الحياة . مخيالي زاد اتساعا وتوهجا من ذي قبل . أصبحت أتمتع بتجربة إنسانية ثرية . أشعر وكأني ولدت من جديد .
لقد خرجت من وطني مُجبرا وراغباً في آن واحد . لا أصنف نفسي مع السياح الذين أتوا لزيارة ساعة “بيج بن” والتقاط صور أمام قصر باكينغهام ، ذلك أني منذ وطئت قدماي مرفأ فولكستون وهوس العمل وجني المال يشغل بالي . كنت طالبا مغامرا أبحث عن حياة أفضل ولست سائحا عاديا يبحث عن المتعة والاسترخاء . لقد راكمت أكثر من ألف جنيه إسترليني خلال فترة قطاف التفاح . مبلغ مغر ومستحق . مدام ريتا تحفظه لي في صندوق ودائعها الآمن . هكذا تصنع مع كل الطلبة القاطفين لما يهمون بالمغادرة . تمنحهم ظرفا يحوي مستحقاتهم المالية وتودعهم بحرارة وابتسامة عذبة .
ستظل الأيام الجميلة التي قضيتها هنا محفورة في ذاكرتي ، كما سأظل أذكر ريتا بالمرأة الفاضلة التي احتضنتني خلال ظروف عصيبة ، منحتني فرصة شغل كسبت فيها بعض المال وعاملتني بإنسانية سمحاء .
اليوم سأقتني جهاز كاسيت بمكبرات صوت قوية لأدخل الفرحة على قلوب إخوتي ، سيطلقون أشرطة كاسيت لأغاني عبدالحليم وناس الغيوان حتى تصل مسامع جيراننا . كما سأرسم البسمة على وجه أبي ، سأشتري له حقيبة يدوية جلدية كهدية يتباهى بها بين أصدقائه المعلمين .
حملت حقيبتي ملقيا نظرة وداع حزينة على المرآب ، عيناي ممتلئتان بالدموع ، فيما زملائي القاطفين يغطون في نوم ثقيل .
توجهت ماشيا نحو المحطة لأستقل القطار الأول تجاه لندن ، ثم مضيت في طريقي نحو بيت المهاجر عبد السلام ب”هارو رود” حيث سأقضي ليلتي الأخيرة . لا ملجأ لي غيره .
طرقت الباب ، فتح عبد السلام الباب وقد علت محياه ابتسامة ترحيب ومحبة وديعة . قلت له : أتاك ضيف الله ! غدا في الصباح سأنطلق في رحلة العودة إلى بلدي ، سلمته حقيبتي بعدما استأذنته قائلا : سأذهب للتسوق وسأعود لاحقا ، رد علي بلطف : مرحبا بك ، ولا تتأخر في الليل ، عليك أن تستريح وتنام ، فسفرك شاق وطويل . شكرت الرجل وعرجت على سوق غولبورن رود أبحث عن أخي عبدالرؤوف . ألفيته منشغلا في كشك الخضار يفرغ حمولة للتو وصلت من سوق “كوفن غاردن” . التفت خلفه فوجدني أرقبه ، قلت له : إنني أستعد للرحيل ، غدا سأعود إلى المغرب ، وجئت لأودعك ، ثم أذهب إلى شارع بورطوبيلو لشراء بعض الأغراض (ستيريو هيتاشي لإخوتي ، وحقيبة يدوية لوالدي) ، نصحني أخي باقتناء قطعة قماش فاخر لوالدتي من سوق “شيفرد بوش” القريب . احتضنته بقوة وشددت على صدره ، متمنيا له مستقبلا زاهرا في إنجلترا فيما دعى لي هو برحلة إياب آمنة عبر القطار .
كنت قد ضربت موعدا مع سوزان على الساعة الخامسة مساء ، استقلت المترو من وستبورن بارك وتوجهت نحو محطة سانت بول حيث لقاء الوداع الأخير مع حبيبتي .
على غير عادتي ، وصلت سانت بول قبل الموعد المحدد بربع ساعة ، انتظرت في البهو هنيهة وإذا بسوزان تطل وسط حشد غفير من الركاب لفظهم المترو . كانت ترتدي سروال جين أزرق مع بلوزة سوداء منقوشة بلون أخضر قادمة من ورشة العمل .
استقبلتها بابتسامة هادئة ، عانقتها بشوق وطبعت قبلة على خدها الأيسر . لم نلتق منذ حفل زفاف كارمن . أثنيت على هندامها الجذاب ثم أتحفتها بعبارات غزلية . شعرت ببعض التوتر فيما فكرت في أشياء كثيرة تموج في خاطري . كنت أتحين فرصة كي أبوح لها بتصوري عن مستقبل علاقتنا العاطفية التي أوشكت على النهاية . غشيني بعض الغموض حين حاولت أفاتح سوزان في هذا الموضوع الشائك . طرق رأسي سؤال كبير : كيف لي أن أرتبط بشابة قبرصية وأنا مقبل على خوض مباراة الأساتذة تحدد مصير حياتي داخل وطني . لابد لي أن أبوح وأستريح .
ليس من الأخلاق في شيء أن أعدها بارتباط دائم دون أن أوضح لها رؤيتي وتطلعاتي نحو المستقبل ، وإلا سترميني بالغدر ونكث العهد . هل ممكن مصارحتها بأني سأرتبط بها في حالة ما إذا أخفقت في ولوج مدرسة الأساتذة فقط ؟ يا للهول ! كيف لفتاة جميلة صادقة في أحاسيسها أن ترهن مستقبلها بشاب عربي غامض؟. ساورتني حيرة شديدة . العيب في ترددي وشخصي الضبابي وليس في سوزان .
الأوروبيون يؤمنون بالحب وتبعاته ، يستمتعون بروعة الحياة مع من يحبون فيما نحن نؤمن بتبعات القدر الذي قلما يستجيب لأمانينا . حدثت نفسي قائلا : هل ستتهمني سوزان بالتلاعب بمشاعرها ؟ ، ربما ستخمن أنني أمضيت معها علاقة عابرة كسحابة في فصل الربيع . خمنت في أشياء كثيرة تسكن رأسي وقلت : هل بإمكاني أن أقنع فتاة جادة وصادقة بمبررات سخيفة تحت مسمى الظروف كما يفعل بعض الناس ؟ ، كثير من الرجال تحت ضغط المصالح يتخفون وراء صخرة الظروف . تذكرت صديقي أحمد الذي كانت تربطه علاقة حب قوية بفتاة أيام الدراسة ، تواعدا على الزواج ، ولما وقف على قدميه وحصل على وظيفة محترمة تنكر لحبيبته تحت مسمى الظروف ورضا الوالدة . مر شريط أفكار متشابكة في ذهني واستشعرت تأنيب ضميري .
بدأت سوزان تتوجس من ترددي . بدت مقلة في الكلام ، تكتفي بتلقف عباراتي الرقيقة التي أغمرها بها ، كانت ترسل ضحكات ناعمة لا تخلو من غنج مصطنع من حين لآخر .
انهمكنا في سيرنا تجاه نهر التايمز ، كان الطقس رطبا جميلا ، حفيف أوراق الأشجار وصوت الطيور يبعثر صمتنا . عندما شارفنا على الوصول للنهر رفعت عينيها نحوي قائلة : هل سمعت بمسرح غلوب لشكسبير ؟ . قلت لها قرأت عن مسرحيته الشهيرة تاجر البندقية . ردت علي : بعد قليل سنمر على مسرح غلوب القديم الذي يصادف طريقنا ببانك سايد . شدني فضول كاسح إلى اقتحام بوابة المسرح الشهير الذي كان يخضع لعملية ترميم وتوسعة . جلت ببصري على لوحات زيتية يكسوها الغبار معلقة في فضاء البهو ، شعرت لوهلة كما لو أن الزمن ارتد بي إلى عصور النهضة ، لوحات فنية تزين جدران عتيقة تجسد مشاهد مثيرة من مسرحيات الأديب الإنجليزي وليام شكسبير .
سألت سوزان وهي تمعن النظر في لوحة مثبتة على الجدار : من تكون هذه الفتاة الجميلة المطلة على حبيبها من شرفة البيت ؟.
ردت علي :
هل سمعت بقصة روميو وجولييت ؟ .
– نعم سمعت بالقصة دون معرفة تفاصيلها .
على مقربة من نهر التايمز تابعنا سيرنا على الممشى البديع . لا شيء يضاهي جولة منعشة مع حبيبتي وإرسال البصر نحو نهر هادئ في مساء دافئ .
استرسلت سوزان في حكي القصة التاريخية :
– “عرفت مدينة فيرونا الإيطالية صراعا أزليا بين عائلتين نافذتين “مونتغيو” و”كابوليت” ، يخرج من صلبهما عاشقان : روميو وجولييت ، حدث أن التقيا صدفة في إحدى الحفلات فوقعا في عشق مجنون . أخذ روميو يتردد على حديقة جولييت بانتظام ، فتطل عليه من شرفتها بحديث رومانسي ، اتفقا أن يتزوجا سرا بمساعدة قس كاثوليكي ، تعنت عائلتيهما في رفض الزيجة دفع العاشقين للانتحار معا عبر تجرع السم .
تداعى الجميع ليشهدوا الفاجعة ويخبرهم القس بالقصة كلها . تقرر العائلتان المتصارعتان بناء تمثالين ضخمين لروميو وجولييت وسط فيرونا تخليدا لهما ، وقد أدركا متأخرين أن الحب رمم علاقتهما وكان سببا في تصالحهما” .
فيما نحن نسير على طول الممشى ، لملمت الشمس أشعتها وأخذت تغيب عن لندن رويدا رويدا وكأنها تعلن وقت الرحيل ، أرخت بخيوطها المضيئة على سطح نهر تايمز الداكن ، منظر الغروب يرسم لوحة ساحرة بلون عنبري فوق قصر وستمنستر . يهب نسيم عليل على طول ضفتي النهر . استوينا فوق كنبة حديدية نمد بصرنا نحو جسر لندن الساطع بأضواء قرمزية . نتأمل لحظات الغروب ، لحظات الوداع ، كنا في موعد مع فراق موحش.
بدا بعض القلق على سوزان كما بدا علي بعض التردد ، حزمت أمري وقلت لها على الفور :
– غدا سأرحل على الساعة الثامنة صباحا ، وربما لن أعود .
ردت علي باندهاش :
– ولماذا لن تعود ؟ ، إنها كلمة قاسية تصدر من شخص مثلك .
– لأنني سبق لي أن أفصحت لك عن كنه زيارتي في ورشة العمل ، لم آت إلى بريطانيا قصد الاستقرار الدائم .
ردت علي بكلام تطبعه بعض الحسرة :
– ظننت أن الحياة جمعتني بفارس أحلامي وأمل حياتي ، لكن يبدو أن حظي خذلني مرة أخرى . أشعر وكأن حياتي تنهار أمامي .
وقعت علي كلمات سوزان كمطرقة تقيلة هوت على رأسي وألم الفراق يمزق أحشائي ، قاومت دموعي قائلا :
– لم أكن أرغب أن تنتهي تجربتنا الواعدة هكذا ، أحببتك بشوق وصدق المشاعر ، أحس وكأن حياتي بعدك ستفقد أجمل ما فيها .
– ما لم أستطع فهمه هو لماذا لن تعود إلى لندن ؟ .
– لأن حلمي كان دائما أن أبقي في بلدي ، لن أتخلى عن حلمي القديم كي أصبح أستاذا ، فأنا مقبل على اجتياز المباراة وكلي ثقة أنني سأتفوق هذه المرة .
– أخشى ألا تكون قد أخفيت عني الحقيقة ، أشعر وكأن السبب هو اختلاف الديانات وانحدارنا من ثقافات متعارضة .
– صدقيني حبيبتي ، ليس هذا عائقا عندي ، فأنا لا أرغب أن أعيش مغتربا ، وحلمي هو أن أعيش مطمئنا مكرما في وطني .
– أصدقك يا عبدو ، فأنا لم ألمس في سلوكك ما يدعو للخداع والكذب من قبل . أعترف أنك قلت لي منذ البداية أنك في زيارة عابرة لإنجلترا وستعود للمغرب لإنهاء دراستك .
أمسكت بذراعها ونهضنا من الكنبة ، كانت العتمة قد بدأت تداهمنا ، مشينا في صمت قاتل ، أسقطنا عيوننا نحو الأسفل ، نشعر وكأن أحلامنا قد تلاشت ، قلوبنا تحطمت إلى أشلاء ، لحظات صعبة وثقيلة .
وصلنا محطة جسر لندن ، هبطنا أدراج المترو ، وقفنا على الرصيف وقد استبد بنا ألم الفراق ، حدقت في أعينها برهة ، أمسكت يدها وإذا بها ترتجف كعصفور صغير ، قالت :
– فراقك يؤلمني ، رحيلك يقتلني يا عبدو ! – سامحيني ، خذلتني ظروفي فخذلتك ، لا تستحقي مني كل هذا الحزن والخذلان .
ضممتها بقوة إلى صدري فيما الدموع تنهمر على وجنتيها ، ولسان حالها يقول :
– أدمع باكية على حب مضى // قسوة خداع لقلبي الذي اكتوى
يا قلب لا تميل لهواه // ودعه بين جنبات النسيان
أرخيت يدي من ذراعيها وابتعدت قليلا نحو الوراء قائلا :
– إغفري لقلبي الذي أحبك ، وسامحي ظروفي التي خذلتك . – قد أغفر لك ، ولكن هل سأنساك ؟ .
كلماتها أوجعتني ، خفق قلبي وسال دمعي على خدي ، ورددت عليها : – سأرحل الآن ، أشكرك على حبك لي وأجمل أيام عشتها في حياتي..
انسحبت في هدوء واعتليت القطار ، ظلت سوزان واقفة على الرصيف ترقبني من الخلف . انطلق القطار وأخذ يبتعد تدريجا ، فيما صورة سوزان تتوارى عن ناظري شيئا فشيئا وهي تلوح لي بيدها من بعيد .
وقفت وسط المترو والحزن يعتصر قلبي ، أقاوم ترنحي ، لا أقوى على حمل جسدي ، أحملق في وجوه الركاب مغالبا دموعي ، أهمهم بشفتي .
كنت أردد في نفسي أغنية حزينة ل”جيبسي كين” : لن أعود ، لن أعود ! .
وما هي إلا أشهر معدودات حتى تنكر لي الزمن ، لم يستجب لي القدر لما كنت أصبو إليه ، تحطم حلمي القديم على صخرة الوهم . أخذني قدري على باخرة “سيلنك” من جديد ، حملتني ، وأبحرت بي بعيدا عن وطني .