بقلم : عبدالصمد الشنتوف
حالة الحسرة وخيبة الأمل تخيم على مشاعري . صرت أعاني من اضطرابات في النوم . شعور الإحباط بدأ يتملكني ، استلقيت على ظهري داخل كيس نوم أزرق ، أرى كوابيسا أمامي . مشاهد مزدحمة ومتناقضة تجتاح مخيلتي : جورج يصرخ في وجهي ، يعاتبني فيطردني من العمل . سوزان لم تغادر ذهني منذ أن افترقنا عند بوابة المترو ، أما هكتور فصار يطاردني في منامي كما كان يلاحقني في يقظتي . أركض فيركض ورائي ، أحاول الهرب منه ، ألتفت ورائي فأجده يركض بسرعة أقوى . خلت نفسي مثل صيد فريسة يطاردها ذئب أسود .
أشعر وكأن هكتور يريد قتلي ، حاولت أن أفلت منه مرات لكنه انبعث واقفا أمامي ، اعترض طريقي كشبح مخيف ، فهو مصر على النيل مني ، لقد تحول إلى كابوس يقض مضجعي . أنا الآن أصارع كوابيس مفزعة ، أخشى أن يعود بي الوضع إلى سابق عهدي ، أخشى أن أسقط في متاهات المجهول مرة اخرى . استغرقت وقتا طويلا أتقلب داخل كيس نومي ، ثم أطبقت جفوني وغبت في نوم عميق يشبه الموت .
على حين غرة ، استيقظت من النوم مرعوبا على وقع طرق قوي للباب ، إنه حسن ! صاحب كشك الخضار والفواكه جاء ليقلنا في شاحنته إلى سوق شارش ستريت .
كنا نحن الثلاثة في البيت ، كل واحد منا في كيسه مستلق على أريكة الصالون وكأننا في ملجئ خيري . أخي عبدالرؤوف على يميني ومحمد صاحب البيت على يساري ، غارقون في النوم . أهل البيت في إجازة صيفية بالمغرب . كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجرا ، وقف حسن عند رؤوسنا يحفزنا على النهوض ، نخرج من أكياسنا منسلين واحدا تلو الآخر وكأننا ثعالب تخرج من جحورها في جنح الليل ، جميعنا منهكون ومخدرون من ثقل النوم ، نتناوب على دورة المياه ، نتثاءب ونحن “مفعفعون” شبه سكارى . لست أدري ماذا أفعل هنا ولماذا أستيقظ في هذا “نبوري” ؟ ، قيل لي إني سأشتغل مع حسن كمساعد في أسواق لندن ، وإذا بي أجدني أستفيق قبل صياح الديكة مع بزوغ الفجر ، حدثت نفسي : إلى أين نحن ذاهبون في هذه الساعة ؟ ، وهل سوق الخضار يرتاده الناس قبل انبلاج خيوط الفجر ؟ .
داهمني إحساس غريب وخلت نفسي وكأني عسكري ذاهب لإحدى جبهات القتال لصد عدو متربص بحدود الوطن .
ألقي بي داخل عربة باردة في مؤخرة الشاحنة مع كومة من صناديق بلاستيكية..أوعية فارغة.. وقضبان حديدية مع بعض حبال القنب ، جلست وحيدا فوق غطاء بلاستيكي “باش” مخطط بالأخصر مطوي على أربع ، فيما ركب الثلاثة في مقدمة الشاحنة . لم يكن يتسع المكان لأكثر من ثلاثة أشخاص . صوب حسن إلي نظرات شاحبة وكأنه يحاول قراءة ما يموج في خاطري ،ثم أسدل علي الستار بقوة . تم القذف بي كشخص منبوذ داخل العربة ، يا لها من تعاسة ! يا لسخرية القدر !منذ شهرين فقط ، كدت أصير أستاذا والآن تجدني متكدس مع الصناديق وقضبان حديدية صدئة خلف الشاحنة . لن أتخلى أبدا عن حلمي القديم بأن أصبح أستاذا . كنت أتخيل نفسي داخل الفصل بين طلبتي مزهوا أشرح لهم مادة الفيزياء ، وإذا بي أرفع عيني نحو أرتال من صناديق وسخة .
أخذت العهد على نفسي أن أخوض مباراة الأساتذة من جديد بعزم وإصرار هذه المرة . لن أحقد على وطني القاس رغم تخليه عني ، حلمي القديم أن أصير أستاذا مازال يراودني . ستكون السنة الآتية مفصلية في حياتي . قد لا أبالغ إن قلت كلما ازدادت خيبتي هنا ، ازدادت غربتي ووحشتي إلى وطني ، فأنا لن أتحمل البقاء مستخدما عند حسن يطوف بي شوارع لندن في شاحنة مهترئة . لم أكن أتصور أن الحياة قاسية إلى هذا الحد في بلاد الإنجليز وأنا الذي كنت أرى شبابا مهاجرين يقودون سيارات فارهة في شوارع مدينتي . يرتدون ملابس فاخرة بماركات عالمية ، يمشون الخيلاء مزهوين أمام الناس .
رأيت بأم عيني شابا يدعى حليم رجع إلى المغرب خلال عطلة الصيف بسيارة مكشوفة من نوع “أوستين” بعد سنتين قضاها في المهجر . كان يسابق زملاءه المهاجرين بسرعة فائقة في كورنيش العرائش ، أصوات موسيقى صاخبة تنبعث من سيارته الفارهة ، يمر أمامنا مسندا ذراعه الأيمن على نافذته ، ينفث دخان سيجار كوبي في الهواء منتشيا . كان محط أنظار فتيات جميلات ، شباب يركضون وراء سيارته فيلتصقون بها وكأنهم يتمسحون بجدران ضريح طلبا للبركة ، يتملقون لحليم ، يتزلفون إليه ، ويطلبون وده . كان يوزع ابتسامته عليهم وكأنه الأمير شارلز قد حل ببلدتنا .
من داخل هذه الشاحنة استوعبت درس المهاجرين جيدا ، أدركت أن الحياة في لندن ليست وردية كما كنت أتوهم ، إن رغبت في جمع المال وتصنع مثلهم ، فعليك أن تركب شاحنة باردة وتطوف بك شوارع لندن فجرا ، أو تمضي ساعات طويلة تغسل الصحون بقبو مطعم إيطالي . بعضهم يكنسون المكاتب في إدارات شاهقة ، ينظفون عمارات بمواد تطهير تزكم الأنوف ، يبيدون حشرات خطيرة بسوائل كيماوية سامة إذا لزم الأمر . أدركت أن مراكمة المال بلندن يقتضي جهدا بدنيا وعملا مضنيا شاقا .
كان حسن يقود شاحنة زرقاء من نوع بدفورد ، الطقس شديد البرودة ، سكون الليل يخيم على منطقة لاتيمار رود ، شقشقة الطيور تصل أذني من أشجار متراصة على جانب الشارع ، ترن في أذني فتحدث صوتا شجيا وكأنها سيمفونية هادئة .
إحساس الدوار يستبد بجسدي غير المتوازن ، ذهني شارد ومشتت ، أمضيت ليلة متعبة أطارد فيها كوابيس مرعبة .
أخذت الشاحنة تخترق شوارع لندن تجاه السوق ، أصابعي تكاد تتجمد من شدة البرد القارس سيما عندما ألمس قضبان الحديد من حولي ، عند المنعرجات أحتمي بجزء من غطاء بلاستيكي حتى لا تسقط الصناديق فوق رأسي .
يداهمني إحساس غريب وأنا ممتطي مؤخرة الشاحنة ، أهذه هي لندن ؟ ! طوال حياتي وأنا أمسك بكتبي وأقلامي ، والآن تجدتي داخل عربة موحشة . حظي اللعين يعاندني ، خلت نفسي ممتطيا شاحنة عمال كادحين في طريقهم إلى ضيعات الفراولة بمولاي بوسلهام .
عند وصولنا إلى سوق شارس ستريت ، وجدنا شابة إنجليزية شقراء تدعى مارغريت تنتظرنا عند المربع المخصص لنصب الكشك ، علمت بعد ذلك أنها زوجة حسن ، تعرف عليها منذ أيام الطفولة بالمدرسة ، فقررا أن يلجا ميدان التجارة بعدما انقطعا عن الدراسة في سن مبكر . كانت مارغريت شابة هادئة وذكية ، تمتلك خبرة طويلة في إدارة تجارة الأسواق . تشتغل بجد وإصرار ، تحدث الزبناء بلطافة عكس زوجها الذي كان فظا صعب المراس ، حسن شاب صارم يشتغل بدون كلل لساعات طويلة ، لكنه سريع الغضب وطبعه متشنج .
ذات صباح بينما كانت مارغريت ترتب البضاعة فوق رفوف الكشك ، اشتبك حسن في الكلام مع أحد زبنائه الأفارقة . أسلوب التجارة عند الانجليز يقتضي اللباقة والإتكيت في الحديث ، الزبون دائما على صواب حتى لو أخطأ ، فهو الذي يدفع المال . هذه المقولة لا تنسحب على الشاب حسن ، بمجرد ما تفوه الزبون الإفريقي بكلمات لاذعة حتى انتفض حسن واستشاط غضبا ، انتفخت أوداجه وجرت في عروقه دماء العروبة المشتعلة . تصايح الرجلان ثم انخرطا في مشادة كلامية حادة ، تطور الأمر الى نطحة رأسية من طرف حسن وبدأ التشابك بالأيدي . أسقطه أرضا بلكمة مباغثة وأخذ يمطره بضربات قوية وكأنه علي كلاي . تدخلت مع محمد على وجه السرعة لفض الاشتباك غير المألوف في السوق . كاد حسن ان يفتك بزبونه ، هذا الأخير اخطأ طريقه وأساء تقديره ، ظن أن حسن مثل باقي التجار الإنجليز والهنود يتقبلون الكلام الناب بصدر رحب ، لم يتصور الزبون الإفريقي أن الشاب المنحدر من قبيلة سوماتة العنيدة قد ينقض عليه ، فيتحول من تاجر وديع إلى وحش آدمي مجنون .
وقفت مارغريت جامدة في مكانها ترقب المشهد العنيف ، لاح هول الصدمة على وجهها ، لا تكاد تصدق ما تشاهده من جنون غير مبرر ، وما عساها أن تفعل ؟ ، فهي تحب زوجها وتعرفه منذ كان طفلا صفيقا بالمدرسة ، وتعشقه كثيرا رغم رعونته وقسوته .
بعدما نصبنا الكشك الحديدي فوق المربع ، أسدلنا “الباش” . بعدها امتطيت الشاحنة مع حسن وتوجهنا سويا نحو سوق الجملة “كوفن غاردن” لجلب بضاعة اليوم . جلست أنصت إليه بشغف فيما كان يقود شاحنته بهدوء ، طفق يحدثني بتباه عن ذكريات ماضيه بلندن ، طوال الرحلة وهو يحكي عن شجار عنيف نشب بينه وبين زبون مصري استخف به ، فلقنه درسا على غرار درس الزبون الإفريقي .