القائمة

بُص العصفورة: وهم القوة أم هروب جماعي؟

غرفة الأخبار 18 ساعة مضت 0 9.1 ألف

في كل مرة يصعد “ترند” تافه إلى سطح الأيام، وكلما ازدحم “التايم لاين” بحدثٍ فني أو شائعة عاطفية أو سقوطٍ أخلاقي لإحدى الشخصيات الشهيرة أو العامة، يخرج من أعماق وجدان المصري عبارةٌ جاهزة، محفوظة، موروثة: “بُص العصفورة!”

لا يقولها المصري ببراءة، بل بمرارة… بذكاءٍ مشوبٍ باليأس، وبحكمة العارفين، وبسخريةٍ مُرّة تَشي بما هو أعمق من سطح العبارة. هو لا يرى في الحدث “التريندي” سوى ستار دخان، مؤامرة مدبَّرة، إصبعًا يشير إلى الأعلى حتى لا يرى الناس ما يحدث تحت أقدامهم.

“أكيد الحكومة عاملة التريند ده علشان تِداري على مصيبة أكبر!”

عبارة تتكرر بتلقائية، وكأنها عقيدة غير مكتوبة. وكأن وراء “التريند” ماكينة شريرة تدور في الخفاء، تُدبّر وتُخفي وتُناور.

لكن: هل تحتاج السلطة فعلًا إلى “عصفورة” لتُشغل هذا الشعب؟
هل نحن في يقظتنا السياسية بهذه الخطورة؟ هل نحن حقًا “أعداء يقظة” يجب صرف انتباههم؟ من قال إن النظام يخشى التفات الجماهير؟
من أوهم المصريين أن لهم بصرًا حادًّا أصلاً يحتاج إلى “تشتيت”؟
من أقنعنا بأننا شعب، لو لم تُلْهِهِ السلطة، سيُسقطها؟

“بُص العصفورة” ليست مؤامرة، ولا خدعة سياسية
بل مرآة. مرآة نُخفيها حين نُحدّق في وجوهنا العارية من المسؤولية. طقسٌ وجداني، فيه شيء من النوستالجيا إذ نُضخّم ذواتنا في خيالنا، وننسج لأنفسنا وهمًا بطوليًّا يُعزّي خيبتنا.
بُص العصفورة” هي حيلة نفسية جماعية نمارسها طوعًا كي نهرب من لهب الحقيقة. فنُفضّل السذاجة المختارة على المعرفة التي توجع. كما قال تولستوي: “الناس لا يهربون من الألم، بل من الإدراك الذي يسبقه.”

لسنا ضحايا آلة إعلامية فقط. نحن صُنّاع لها. نُروّج للتفاهة، نُعيد نشرها، نضحك عليها… ثم بها… ثم بها علينا.
نحتفي بالتافهين، ونُغني للسطحي، لأننا نخشى أن نغوص في المعنى.

“بُص العصفورة” إذًا، ليست إصبع الحكومة، بل إصبعنا نحن، وليست مؤامرة، بل استعارة الضعفاء.وما كانت هذه العصفورة لتخدعنا، لو لم نُحدّق فيها بمحض إرادتنا. إننا نضع أعيننا على “اللاشيء”، فقط لأن “الشيء” أصبح مؤلمًا، ومسؤولًا، ومُكلّفًا.والمأساة الأكبر أن تلك “العصفورة” التي كنا نراها فوق إصبع الحكومة… أصبحت تسكن في قلوبنا.

والعجيب أنني حين بحثت هل الشعب المصري يتفرد بعصفورته؟
لكنني فؤجت أن نظرية “بُص العصفورة” ليست حكرًا على المزاج المصري وحده، بل هي نغمة تتردد في أركان الأرض كلما ضاق الصدر بالواقع، واتسع الخيال بالمؤامرة.

في المجتمعات الروسية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، سادت قناعة بأن كل ما يُعرض في الإعلام هو وسيلة لصرف الأنظار عن أزمات كبرى. ويستخدمون عبارات مثل:
“Это просто дымовая завеса” أي: “هذا مجرد ستار دخان.”

وفي أمريكا اللاتينية، صاغت الشعوب مرثيتهم في تعبير قديم جديد: “الخبز والسيرك” (Pan y Circo)، وهو مستوحًى من تعبير روماني قديم، واستخدم لاحقًا في السياسة الحديثة في دول مثل الأرجنتين وفنزويلا، ليعني تقديم الترفيه والاحتفالات الجماهيرية لإلهاء الناس عن الجوع والفساد والقمع.

أما في الصين، فيُقال: “الأخبار السعيدة تغطي الأنباء السيئة”؛ فيُغرق الإعلام بإنجازات وهمية أو حفلات واحتفالات كلما حدث اضطراب سياسي أو اقتصادي.

وفي الولايات المتحدة، حين يفقد الشعب ثقته في السلطة، يقولون: “Wag the Dog”، وهو مصطلح شهير مستلهم من فيلم يحمل الاسم ذاته،

يعني اختلاق أزمة أو حدث إعلامي لصرف الأنظار عن فضيحة سياسية.
قد أصبح يُستخدم يوميًّا لوصف تلك الحيل منذ ظهور الفيلم في عام1997.

وما زال السؤال معلّقًا في الهواء:
أترانا، مثل باقي شعوب الأرض، نحب العصفورة، أم نخاف أن نتحمّل مسؤوليتنا ونحدّق في النار؟
لأننا لا نريد أن نرى، لا نريد أن نعرف، ولانريد أن نشارك في مسؤولية الواقع

باختصار:
كل أمة لها عصفورتها، وكل شعب يُطالع إصبعًا يُشار به بعيدًا، لأنه لا يريد أن يرى أين يطأ.

كتب بواسطة

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

اترك تعليق

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *