القائمة

هل تخرج أمريكا من التاريخ؟

غرفة الأخبار 6 أيام مضت 0 6.4 ألف

كتب | د.ماجد فياض

حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، كان العالم محطّمًا: مدنٌ مهدّمة، شعوبٌ ممزّقة، ونظامٌ دولي بلا قواعد.
من بين الركام، قادت الولايات المتحدة وحلفاؤها بناء نظام عالمي جديد عُرف بـ”نظام بريتون وودز”.الذي أسّس لصندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي (World Bank) عام 1944، في محاولة لصياغة اقتصاد عالمي أكثر استقرارًا. ثم جاءت الأمم المتحدة عام 1945 لتضع لبنة السلم السياسي، وتلتها اتفاقية “الجات” عام 1947 التي مهّدت لإنشاء منظمة التجارة العالمية لاحقًا.

كانت الفكرة ببساطة: سلام عالمي تقوده أمريكا عبر قيم الديمقراطية، وسيادة القانون، والتجارة الحرة.
لم يكن نظامًا نزيهًا تمامًا، فقد ضمنت واشنطن لنفسها مقعدًا دائمًا في مجلس الأمن، وهيمنة اقتصادية على بقية الدول. لم يكن كاملاً، ولا خاليًا من التناقضات، لكنه كان محاولة لصياغة عالم أكثر أمنًا واستقرارًا.
ورغم عيوبه، استطاع إخضاع القوة للشرعية، وجعل المصالح المشتركة بديلًا عن الصراع المفتوح، ووفّر مظلة حالت دون حرب عالمية ثالثة، وأسهم في تحقيق نمو اقتصادي هائل، وتراجعٍ في معدلات الفقر حول العالم.

ولهذا كتب المؤرخ السياسي جون إيكنبري في Foreign Affairs عام 2011:
“الولايات المتحدة لم تفرض هيمنتها فقط، بل عرضت نظامًا عالميًا تلتزم حتى القوة الأعظم بقيوده.”

ثم جاء ترامب، لا ليُصلح هذا النظام… بل ليهدمه.

في أقل من أربع سنوات، نسف أسس النظام العالمي واحدة تلو الأخرى: سَخِر من حلف الناتو، تخلّى عن اتفاقيات التجارة، انسحب من اتفاقيات المناخ، وقلّص تمويل منظمة الصحة العالمية حتى في ذروة جائحة كورونا، وحوّل المنظمات الأممية إلى “أعداء للأمة الأمريكية”.
لم يكن مشغولًا بمكانة أمريكا كـ”قائدة للعالم الحر”، بل أرادها أن تعود “عظيمة” بمفردها، حتى لو احترق العالم حولها.

لقد قلب طاولة الهندسة الدقيقة، وباع قطع النظام العالمي في مزاد شعبي لجمهور لا يرى العالم خارج حدود أمريكا البيضاء الغاضبة.

ترامب ليس مجرد رئيس أمريكي، بل “أزمة نظامية متنقلة”، تصيب حيث تمر، وتعيد تشكيل المفاهيم لا السياسات فقط.
منذ صعوده إلى البيت الأبيض، لم تعد أمريكا كما كانت، ولا عاد العالم يثق في النظام الدولي كما عرفه منذ الحرب العالمية الثانية.
لقد قُتل ما تبقّى من “الرومانسية السياسية” على يد رجل أعمال يرى في العالم صفقة خاسرة، وفي الحلفاء عبئًا، وفي المؤسسات الدولية مزادًا.

وهذا ما دفع المحلل السياسي توماس فريدمان إلى أن يكتب في نيويورك تايمز عام 2018:
“ترامب لم يكن رئيسًا جمهوريًا تقليديًا، بل كان أشبه بعاصفة سياسية تهدم بلا خطة لإعادة البناء.”

في الداخل الأمريكي، كشف ترامب عن صدع تاريخي لم يُرمّم قط.
جعل من العنصرية مادة انتخابية، ومن الكذب اليومي عادة رئاسية، وساهم في تآكل الثقة في الإعلام، وفي القضاء، وفي العملية الانتخابية ذاتها.
أمريكا التي كانت تُصدّر “الديمقراطية”، أصبحت تواجه خطر الانقسام الداخلي على أساس عرقي وديني وثقافي.

وقد بدا مشهد اقتحام مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021 وكأنه من جمهوريات الموز، حيث تنهار الديمقراطية تحت أقدام الغوغاء… لا في عقر دار أقدم ديمقراطية دستورية معاصرة.

أما في أوروبا، فقد وضع ترامب علاقات بلاده مع القارة على المحك.
لم تعد “الصديقة التاريخية” للولايات المتحدة، بل تحوّلت في نظره إلى شريك “مستغل” و”ضعيف الدفاع عن نفسه”.
انسحب من اتفاق باريس للمناخ، ووجّه ضربات متتالية لحلف الناتو، وشكّك في مبدأ “الدفاع المشترك”.
قالها بوضوح: “أمريكا أولًا”، حتى ولو كان الثمن وحدة الغرب.
تودّد إلى أنظمة استبدادية على حساب الحلفاء التقليديين، مما ولّد صدمة وجودية في أوروبا، ورفع أصواتًا تطالب باستقلال سياسي وعسكري عن واشنطن.
في تقرير لمركز Pew Research عام 2020، عبّر فقط 31% من الأوروبيين عن ثقتهم في القيادة الأمريكية، مقارنة بـ64% في عهد أوباما.
لقد أصبحت أمريكا موضوع شكّ لا قدوة.
تحوّلت من “قوة تنظم العالم”، إلى “قوة تفككه ثم تنسحب”.

أما منطقتنا العربية، فقد تلقت جرعات مضاعفة من سياسات ترامب الكارثية: نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وطرح “صفقة القرن” دون شريك فلسطيني، وشجّع أنظمة القمع، بينما صعّد ضد إيران، ثم انسحب من أفغانستان باتفاق مفاجئ مع طالبان.
ترك خلفه شرقًا أوسط أكثر اضطرابًا، وأقل ثقة في واشنطن.

وفيما كانت أمريكا تتراجع، تقدّمت الصين بخطى محسوبة، وشعرت أن لحظة القيادة قد حانت.
فردّت على الحروب التجارية بترسيخ نفوذها في آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وطوّرت شراكات استراتيجية ضمن مبادرة “الحزام والطريق”.

أما روسيا، فتلذّذت بفوضى ترامب، ووجدت فيها فرصة لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا الشرقية.
لقد فتح ترامب ثغرات في الجدار الغربي لم تكن لتحلم بها موسكو أو بكين.

لقد أدّى انحسار القيادة الأمريكية إلى تسريع ولادة عالم متعدد الأقطاب، لا يحكمه مبدأ “من معنا”، بل من يملأ الفراغ أولًا. لم يعد العالم كما كان. لقد أخرج ترامب الوحش من القمقم، وكسر حاجز “اللياقة السياسية”. وترك نظامًا هشًا يترنّح تحت ضربات الشعبوية.

يقول المؤرخون إن كل إمبراطورية تحمل في داخلها بذور فنائها،
لكن لعلّ أمريكا ـ ترامب ـ لا تُزرع فيها البذور، بل بدأت في حصادها بالفعل.
فترامب لم يأتِ من خارج المشهد الأمريكي، بل من صلبه: من إعلامه المهووس بالشهرة، ومن نخبه المسكونة بالشوفينية والاستعلاء، ومن قاعدته الشعبية الغاضبة التي تحمل السخط أكثر من الأمل.

لقد تعرّى النظام، وسقطت الأقنعة، وأدرك الجميع أن ما بُني عبر عقود… يمكن أن يُهدم بتغريدة.

ترامب عرضٌ لا مرض، وصرخة داخلية انطلقت من أعماق جسد إمبراطورية تشيخ في صمت.

وربما كان هذا ما قصده فرانسيس فوكوياما حين قال:
“المعركة لم تعد بين الديمقراطية والاستبداد فحسب… بل بين النظام والفوضى.”

كتب بواسطة

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

اترك تعليق

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *