بقلم الإعلامية دكتورة: ماجدة محمود عبد العال
لم تكن قمة السلام في شرم الشيخ مجرد حدث سياسي عابر، بل لحظة فارقة في التاريخ الحديث للشرق الأوسط، جاءت لتُعيد صياغة المشهد الإقليمي والدولي معًا. فبينما يتخبط العالم في إدارة الأزمات، كانت مصر — بهدوء العارفين — تخطط، وتتحرك، وتجمع المتناقضين على طاولة واحدة، لتُثبت من جديد أن دبلوماسيتها ليست طارئة، بل ممتدة الجذور في عمق الوعي الإنساني والسياسي للمنطقة.
شرم الشيخ، المدينة التي شهدت عبر عقود مؤتمرات الحرب والسلام، عادت لتؤكد رسالتها الأبدية: أن السلام لا يُفرض بالقوة، ولا يُشترى بالتصريحات، بل يُصنع على أرضٍ تعرف قيمته. تلك الأرض كانت ولا تزال مصر.
في لحظة اتسمت بالارتباك الدولي والتناقض الإقليمي، ظهر الموقف المصري واضحًا وحاسمًا. لم تتحدث القاهرة بلغة الشعارات، بل بلغة الدولة العاقلة التي توازن بين العاطفة والواقعية، بين المبادئ والمصالح. كان خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي نموذجًا لهذا التوازن؛ صريحًا في الدفاع عن الحقوق، حازمًا في رفض التهجير أو طمس الهوية الفلسطينية، وموضوعيًا في الدعوة إلى مسار سلام يقوم على العدالة لا على المسكنات المؤقتة.
ما يميز الموقف المصري أنه لا يقوم على رد الفعل، بل على الفعل المُسبق والتخطيط الهادئ. فمصر تدرك أن ما يجري في غزة ليس أزمة حدودية أو صراعًا محليًا، بل قضية إنسانية وأمنية وسياسية تمسّ استقرار المنطقة بأكملها. من هنا، لم يكن تحركها بدافع الانفعال، بل من منطلق رؤية إستراتيجية أوسع: أن الأمن القومي المصري يبدأ من حماية الجوار، وأن السلام في فلسطين هو الضمان الحقيقي لاستقرار الشرق الأوسط.
في القمة، لعبت مصر الدور الذي لا يجرؤ عليه كثيرون: الوسيط النزيه القادر على الجمع بين الأضداد دون أن يفقد استقلاله أو هيبته. فهي تتحدث إلى الجميع، وتستمع إلى الجميع، لكنها تنحاز للحقيقة وحدها. وبهذه المعادلة الصعبة استطاعت القاهرة أن تُعيد صياغة مفهوم الوساطة من مجرد جهد دبلوماسي إلى “فن قيادة المواقف”.
الجهود المصرية لم تقتصر على الكلمات أو الصور الرسمية، بل تجلت في التفاصيل الدقيقة التي لا تُرى أمام الكاميرات: التنسيق اللوجستي، الضغط الدبلوماسي الهادئ، الإعداد الأمني، فتح قنوات التواصل المتوازية، والعمل المستمر لتأمين المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين. كلها خطوات تؤكد أن القاهرة لا تتحدث عن السلام، بل تمارسه وتبنيه.
لقد أثبتت القمة أن القيادة المصرية لا تبحث عن مجد شخصي أو سياسي، بل تتحرك من منطلق مسؤولية تاريخية. فحين تتراجع الأصوات، تكون مصر هي الصوت الأخير للعقل. وحين تتنازع القوى الكبرى حول من يملك القرار، تكون القاهرة هي من تملك المفاتيح.
والحقيقة أن نجاح القمة لا يُقاس بعدد الكلمات التي قيلت، بل بحجم التغيير الذي فرضته في إدراك العالم. فالعواصم الكبرى باتت تعترف أن لا استقرار دون دور مصري، وأن أى سلام لا يمر عبر القاهرة لن يدوم طويلاً. ومن هنا، تحوّل الدور المصري من مجرد وسيط إلى ضامنٍ للشرعية الإقليمية، وصوتٍ متزن وسط ضجيج المصالح.
لكن ما يجعل المشهد أكثر عمقًا هو أن مصر، رغم ما تتحمله من ضغوط وتحديات داخلية وخارجية، اختارت أن تظل على مبدأها: أن الدفاع عن الإنسان لا يقل أهمية عن الدفاع عن الأرض، وأن السلام العادل ليس ضعفًا، بل أعلى درجات القوة.
إن قمة شرم الشيخ لم تكن مجرد منصة دبلوماسية، بل كانت إعلانًا صريحًا عن عودة مصر إلى موقعها الطبيعي كصانعة توازنات ومهندسة حلول. لقد استثمرت القيادة السياسية ما راكمته من ثقة دولية لتجعل من القمة نقطة تحول، لا في ملف غزة فحسب، بل في شكل العلاقات بين الشرق الأوسط والعالم.
وفي الختام، يمكن القول إن التاريخ سيذكر هذه القمة لا بما قيل فيها، بل بما رسّخته من حقيقة واحدة: أن مصر، بقيادتها الرشيدة، ما زالت القادرة على أن تضع للعالم بوصلة حين يفقد الاتجاه. ففي زمنٍ امتلأ بالضجيج، وقفت القاهرة لتقول كلمتها بثقة الهادئ القوي: إن السلام ليس خيارًا هشًّا، بل إرادة تصنعها الأمم التي تعرف قيمتها، وتؤمن أن الحياة تستحق أن تُحمى.
magy-news@hotmail.com