كتب | د. ماجد فياض
لم يكن ظهور الطبيب الأوروبي الأبيض في صورة “المنقذ الرحيم” في البلدان المستعمَرة بهدف الشفاء، وإنما كوسيلة لكسب ثقة السكان الأصليين، وترويض المجتمعات، وتمهيدًا نفسيًا لقبول حضارته ودينه.
لا تتعجب يا صديقي، فهذا ما تناوله المؤرخ البريطاني ديفيد أرنولد في كتابه الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية، الذي يُعدّ عملًا أساسيًا لفهم العلاقة بين الطب والسياسة. يروي الكتاب تاريخ الطب الغربي وأهدافه في المستعمرات، خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين، مع التركيز على مستعمرات مثل مصر، والكونغو، والهند، والفلبين. وقد أظهر كيف استُخدم الطب الغربي لتبرير شرعية الاستعمار وإثبات تفوقه، أكثر مما استُخدم لفائدة الشعوب المحكومة.
لم يكن الطبيب الأوروبي مجرد معالج، بل كان حاملًا لقيم حضارية ودينية أراد من خلالها إخضاع الشعوب المستعمَرة، وإعادة تشكيل هوياتها. حتى إنه في بعض الحالات، كان يُشترط حضور الصلاة أو تلقّي تعليم ديني للحصول على العلاج.
وهكذا، تحوّل الطب إلى سلاح ناعم في يد الاستعمار، يُعيد رسم ملامح المجتمعات تحت ستار “الرحمة” و”التقدّم”.
وفي السياق التاريخي والثقافي المعقّد ذاته، ظهرت مدارس الراهبات، مرتبطة بوصول البعثات التبشيرية الفرنسية والإيطالية والبلجيكية إلى الشرق الأوسط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكانت هذه المدارس تستهدف في بداياتها خدمة الأقليات المسيحية، وتوفير تعليم للفتيات، خاصة في ظل مجتمعات كانت ترفض تعليم الإناث. ثم تحوّلت إلى أداة تعليمية تبشيرية تمارس دورًا مزدوجًا بين التعليم والتوجيه الديني. لم تكن هذه المدارس مجرد مؤسسات أكاديمية، بل كانت بمثابة محطات ثقافية يسعى الاستعمار من خلالها إلى تغيير ملامح الهوية المحلية، وتعليم الأجيال الجديدة من الأطفال مبادئ وثقافة المستعمِر.
لم تكن مصر استثناءً في هذا المشهد، بل كانت واحدة من محطات كثيرة توقفت عندها مدارس الراهبات، وهي تحمل في حقائبها الأناشيد والكتب والصور المقدسة. فقد انتشرت هذه المدارس في لبنان وسوريا تحت الانتداب الفرنسي، وفي تونس، وفي الفلبين التي تُعدّ من أكثر الدول التي شهدت انتشارًا واسعًا لمدارس الراهبات نتيجة الاستعمار الإسباني ثم الأمريكي، وغالبًا ما ارتبط التعليم فيها بالتنصير. وكذلك في الهند مع المدّ الكولونيالي البريطاني، وفي أنحاء أفريقيا الفرنكوفونية.
هكذا أصبحت المدرسة، تمامًا كالمستشفى، مؤسسة تبدو بريئة في ظاهرها، لكنها تُعيد صياغة الروح المحلية على مهل، تحت إشراف ابتسامة ناعمة وثوب أبيض طويل.
وبذلك، بدا المشهد الاستعماري وكأنه لوحة مرسومة بريشة ناعمة، لا سوط فيها ولا قيد، بل مبضع طبيب وطبشورة معلمة. فالاستعمار حين أراد أن يُخضع، لم يلجأ دومًا إلى السلاح، بل تسلّل من خلال رائحة الدواء، ودفء الحضانة، وابتسامة الراهبة. كان الطب يُدخل الجسد في طاعة الغرب، وكانت المدرسة تُعيد تشكيل العقل والروح. مشروع مزدوج، ناعمٌ في وسائله، صارمٌ في نتائجه، حيث خرجت أجيال تُجيد لغات المستعمِر، وتُقدّر أدواته، وتُنكر أحيانًا جذورها، دون أن تُدرك أنها ثمرة غرسٍ بدأ تحت لافتة الرحمة، ويريد أن ينتهي بترويض الشعوب.
لكن بسبب صعود حركات التحرر الوطنية، وجلاء الاستعمار، وتغير الوعي الاجتماعي، وقوانين الدول الحديثة، لم يعد يُسمح للمدارس بممارسة نشاطات تبشيرية. يُشترط أن تلتزم بمنهج الدولة، وألّا تفرض تعليمًا دينيًا على غير أتباع الطائفة.
بل إنه في بعض الحالات، تحوّلت تلك المدارس إلى مؤسسات علمانية تُدار إداريًا من الكنيسة، لكنها لا تُمارس أي بُعد ديني واضح، خصوصًا في الدول ذات الرقابة التعليمية المشددة، أو التي شهدت ثورات ثقافية (مثل تونس أو بعض دول أميركا اللاتينية).
أمّا في مصر، فحين هبّت ريح التغيير مع ثورة يوليو 1952، تغيّر وجه مدارس الراهبات تغيّرًا عميقًا. لم تعد تلك الصروح المغلقة على أسرارها كما كانت، بل فتحت نوافذها – طوعًا أو كرهًا – لمراقبة الدولة التي فرضت أن يكون للعربية مكانها في الصفوف، وللتربية القومية حضورها في الوجدان، وللدين نصيبه وفقًا لما يؤمن به كل طالب. وأُغلقت الأبواب أمام التبشير الصريح، وقُيِّد تدخل الهيئات الأجنبية في شؤون التعليم، فتحوّلت تلك المدارس من معاقل شبه مستقلة، إلى مؤسسات خاصة تُراقَب من وزارة التربية والتعليم، تُحافظ على صرامة انضباطها، دون أن تتجاوز الإطار الوطني العام.
ولم يكن الأزهر الشريف يومًا بعيدًا عن تلك المواجهة الصامتة. فعلى امتداد النصف الأول من القرن العشرين، ظلّ الأزهر يرى في مدارس الإرساليات تهديدًا صريحًا لهوية الأمة، وخرقًا لنسيجها الديني والثقافي. ففي عام 1933، وجّه الشيخ محمد الأحمدي الظواهري نداءً صريحًا للحكومة لسنّ تشريع يمنع نشاط المبشرين، وأصدر فتوى تُدين التحاق المسلمين بأبناء تلك المدارس، مما أدّى إلى تراجعٍ ملحوظ في أعداد الطلاب المسلمين داخلها.
وفي يونيو من العام ذاته، أعلن الشيخ مصطفى المراغي عن تأسيس “جمعية مقاومة التبشير”، بمشاركة علماء ومثقفين بارزين، وشكّلت هذه الجمعية فروعًا ولجانًا انتشرت في المدن والقرى، تناهض محاولات التغريب وتدافع عن ملامح الشخصية الإسلامية. بل إن أحد النواب طالب بسحب التصاريح المجانية التي كانت تُمنح للمبشرين!
لكن بعد 1952، تراجع دوره الرقابي، وترك للدولة مسؤولية الإشراف، بينما انصرف إلى إصلاح ذاته، وتكيّف مع واقع لم تعد فيه مدارس الراهبات تمثّل تهديدًا للهوية الدينية.
لقد تحوّل التبشير من رسالة دينية صريحة إلى طيف ثقافي ناعم، ومن فرض العقيدة إلى تشكيل الذوق والهوية. بقيت الجدران كما هي، بيضاء وهادئة، لكن ما يُكتب عليها تغيّر، أو توارى قليلًا خلف شعارات الحداثة. ولئن خفت صوت الجرس الذي كان يدعو لصلاة الصبح، فإن وقع الأثر لا يزال حاضرًا في نطق الحروف، وفي طريقة التفكير، وفي الحنين الغامض لأزمنة لم تكن محايدة أبدًا.
أما اليوم، فقد يعتقد البعض أن الحفاظ على الهوية الوطنية يمرّ عبر إغلاق مدارس الراهبات، باعتبارها مؤسسات ذات جذور استعمارية وثقافة دينية مغايرة.
فرنسا نفسها – مهد هذه المدارس – تغلق العشرات منها سنويًا، وتستبدلها بمؤسسات علمانية تُعلي من قيم الفرد والكرامة الإنسانية. حتى الفاتيكان لم يسلم من مراجعة الذات، وبدأ يعيد النظر في منهجه التربوي وأخطائه التاريخية.
في كندا، أدانت لجان تقصّي الحقائق المدارس الكنسية الداخلية التي مارست العزلة القسرية بحق أطفال السكان الأصليين. وفي أيرلندا، احتاجت الدولة إلى عقود كي تعتذر رسميًا عن الانتهاكات الجسدية والنفسية التي وقعت داخل أسوار “مدارس الراهبات”.
لكن الحل لا يكمن في الإغلاق، بل في الإصلاح الواعي. فتلك المدارس، رغم ما حملته من إرث ملتبس، خرجت أجيالًا مثقفة وأتاحت تعليمًا نوعيًا لشرائح واسعة.
التحدي الحقيقي ليس في وجودها، بل في مضمون ما تُدرّسه وكيفية اندماجها في النسيج الثقافي المصري. المطلوب هو إشراف تربوي صارم يضمن احترام الهوية والدستور، وتعديل المناهج بحيث تعكس التعدد المصري، وتُربي العقل على الفهم والنقد، لا على التبعية والانبهار.
إن تربية الرأي العام لا تكون بالعزل، بل بالوعي، ولا تُبنى بالمنع، بل بإتاحة الفرصة للتنوير المنضبط.
نحن نحتاج أن تكون المدارس، كل المدارس، مؤسسات لصناعة الإنسان المصري الحديث، معتزًا بهويته، منفتحًا على العالم، متمكنًا من لغته الأم، ومتقنًا للغات العصر؛ متمكنًا من أدواته، فخورًا بهويته، حرًّا في اختياره، لا نسخةً من أحد، ولا ظلًّا لأحد.