إذا كُنت في زيارة إلى العاصمة الهولندية أمستردام، فلا تفوّت الفرصة لاكتشاف قرية “زانسي سخانس ” (Zaanse Schans)، إحدى أشهر الوجهات الريفية في هولندا، التي تقع على بُعد أقل من نصف ساعة شمال العاصمة.
إنها ليست مجرد قرية عادية، بل متحف ريفي مفتوح على ضفاف نهر زان، يمتلئ بالطواحين الهوائية القديمة، والحرف التقليدية التي شكّلت ملامح العصر الذهبي الهولندي.
ولكن ما الذي يجعل قرية “زانسي شانس” وجهة هولندية مميزة؟ وكيف تصل إليها؟ وماذا يمكنك أن ترى وتفعل في يوم واحد؟ هذا ما سنكتشفه معا في السطور القادمة.

متحف مفتوح
في مُنتصف القرن الـ 20، بدأت هولندا تُدرك أهمية الحفاظ على تراثها الصناعي والريفي، الذي شكّل جزءًا كبيرًا من تاريخها الاقتصادي خلال العصر الذهبي.

ومن هنا وُلدت فكرة إنشاء “زانسي سخانس”، قرية تحاكي الماضي وتعيد الحياة لتفاصيله، ومتحف حيّ في الهواء الطلق يعرض أنماط العيش والصناعات الهولندية التقليدية كما كانت منذ قرون.
تعود الفكرة إلى عام 1946، حين اقترح المعماري الهولندي “ياب شيبر” (Jaap Schipper) نقل عدد من الطواحين والمنازل الخشبية التاريخية من أماكنها الأصلية، التي كانت مهددة بالزوال، إلى مكان واحد يُجسّد الحياة الريفية والصناعات التقليدية في القرنين الـ18 والـ19.
وبعد سنوات من التخطيط، بدأ التنفيذ الفعلي في ستينيات القرن الماضي، حيث نُقلت المباني بعناية إلى الضفة الشرقية لنهر زان.
ومنذ ذلك الحين، تطوّرت زانسي سخانس لتصبح أحد أهم نماذج الحفاظ على التراث الريفي الهولندي، حيث لا تقتصر زيارتها على مشاهدة طواحين الهواء الشهيرة؛ بل تشمل أيضا منازل خشبية مطلية باللون الأخضر تعيد الزائر إلى أجواء القرون الماضية، ومتاجر تقليدية، ومصانع قديمة لا تزال تعمل حتى اليوم.
الوصول للقرية
الوصول إلى قرية زانسي سخانس سهل وسريع، ما يجعلها وجهة مثالية لرحلة يومية خارج العاصمة.
يمكنك استقلال القطار من محطة أمستردام المركزية إلى محطة “Zaandijk – Zaanse Schans”، وهي أقرب محطة للقرية، وتستغرق الرحلة حوالي 17 دقيقة فقط.

من هناك، ستحتاج إلى 10 دقائق سيرا على الأقدام لعبور جسر المشاة والوصول إلى قلب القرية.
وإذا كنت تفضل السيارة، فهناك مواقف مخصصة للزوار قرب المدخل، مما يسهل عليك التنقل بحرية، كما تتوفر أيضا حافلات سياحية تنطلق من أمستردام إلى القرية مُباشرة.
تكلفة الزيارة
من المفاجآت السارة في زانسي سخانس أن الدخول مجاني تمامًا، ويمكنك التجوّل بحرية بين الممرات الخشبية، والاستمتاع بمشاهدة الطواحين الهوائية والمنازل التقليدية، والتقاط الصور كما تشاء دون أي رسوم.

مع العلم أن بعض المتاحف وورش العمل تفرض رسوم دخول رمزية، وهي غالبا تشمل جولات تفاعلية أو عروضًا حية تستحق التجربة. باختصار، يمكنك قضاء يوم غني بالأنشطة والمشاهد الجميلة في زانسي شانس دون أن تضطر لإنفاق الكثير.
أوقات الزيارة
يمكنك زيارة القرية يوميًا من الساعة التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساء، وتعتبر الفترة المثالية للزيارة بين شهري أبريل/نيسان وسبتمبر/أيلول، حيث يكون الطقس لطيفا، وتكتسي المروج باللون الأخضر.
سواء كنت تحب قضاء لحظات مميزة أو مُحبا للتصوير أو فقط باحثا عن هدوء الريف الهولندي، فـ زانسي سخانس تقدم لك تجربة متكاملة في يوم واحد، وفيما يلي خريطة لقضاء رحلة نهارية في هذه القرية المدهشة:
الصور التذكارية
بمجرد وصولك إلى محطة قرية زانسي سخانس ، تعبر جسرا صغيرًا يطل على النهر، وستجد نفسك وسط البيوت الخشبية الخضراء التقليدية، والجسور الصغيرة التي تتقاطع مع قنوات المياه الضيقة، ستشعر حينها كأنك جزء من فيلم قديم أو في لحظة مسجّلة في بطاقة بريدية.
هذه المنازل تمثّل نمط البناء التقليدي في منطقة زان التي كانت مزدهرة في القرنين الـ18 والـ19، حين ازدهرت المنطقة بفضل التجارة والصناعة.
كثير منها كان مملوكا لأصحاب الطواحين والتجار، وتتميّز بواجهات أمامية مزخرفة تعكس مكانة أصحابها الاجتماعية.
ورغم أن معظم هذه البيوت لا تزال مأهولة، فإنك تستطيع التقاط صور تذكارية لها من الخارج، خاصة عند الجسور الخشبية والنوافذ المزينة بالأزهار، حيث تبدو القرية كأنها توقفت في لحظة هادئة من الماضي.
طواحين الهواء
من بعيد، تبدو طواحين الهواء في زانسي سخانس كأنها مشهد من لوحة هولندية قديمة: أشرعة ضخمة تدور ببطء وسط مروج خضراء ونهر هادئ. لكن ما إن تقترب منها، حتى تدب الحياة في هذا المشهد الساكن؛ فالطواحين ليست مجرد رموز تاريخية، بل آلات نابضة لا تزال تعمل منذ قرون.

تعود بعض هذه الطواحين إلى القرن الـ17، حين كانت قرية زان مركزا صناعيًا مُزدهرًا يضم نحو 600 طاحونة في أوج نشاطه.
واليوم، ما زالت طواحين قليلة تعمل بكامل طاقتها، ويتاح لك فرصة الدخول إليها لاستكشاف تفاصيلها الميكانيكية المذهلة.
الدرج الخشبي
عند الصعود عبر الدرج الخشبي الضيق إلى السطح، ستحصل على إطلالة بانورامية خلابة على نهر زان وسط المروج والمنازل الخضراء المحيطة. ومن أهم الطواحين المتاحة للزيارة، طواحين لإنتاج الألوان والطلاء من الصخور والمعادن.

وأخرى تستخدم قوة الرياح لنشر جذوع الأشجار، وأيضا طواحين الزيوت التقليدية، وطحن الخردل والتوابل مثل القرنفل والفلفل.
يمكنك التجوّل بحرية بين هذه الطواحين، أو الانضمام إلى جولة بصحبة مرشد لتتعرف على تاريخها وأهميتها، وتشاهد نماذج حية للآلات التقليدية.
ولا تكتمل التجربة دون زيارة متحف الطواحين الهوائية (Windmill Museum)، الذي يقدم سردا بصريا وتفاعليا لتطور استخدام الطواحين في هولندا عبر الزمن، من طحن الحبوب والتوابل ونشر الأخشاب، واستخلاص الزيوت، وحتى صناعة الأصباغ، حين كانت منطقة زان من أكبر المراكز الصناعية في العالم.
متحف الجبن
لا يمكن زيارة زانسي شانس دون المرور على متحف مزرعة الجبن (Catharina Hoeve Cheese Farm)، وهو ليس متحفا تقليديا بالمعنى الحرفي؛ بقدر ما هو تجربة حيّة لحرفة صناعة الجبن الهولندي التي توارثها الهولنديون عبر الأجيال، والدخول إليه مجاني.

يقع المتحف في مبنى خشبي قديم على الطراز الريفي التقليدي، وتبدأ الجولة فيه بعرض بسيط وودود من العاملين بالزي التقليدي الهولندي، يشرح فيه طريقة صناعة الجبن يدويا، من مرحلة حلب الأبقار حتى التخمير والتقطيع والتغليف.
تُعرض في المكان أدوات وأوانٍ أصلية كانت تُستخدم في الماضي لصناعة الجبن في قاعات صغيرة تشبه ورشة عمل قديمة، وتنتشر المجسمات الخشبية للجبن في أركان المتحف، مما يمنحك فرصة رائعة لالتقاط الصور الرائعة.
قاعة التذوّق
الجزء الأمتع من الزيارة يبدأ عندما تصل إلى قاعة التذوّق حيث الطاولات الممتلئة بعشرات الأنواع من الجبن الهولندي المميز.
ستحظى بفرصة تذوّق ما تشاء مجانا، وستجد نفسك أمام خيارات لا تُعدّ ولا تُحصى: فهناك جبن إيدام وجبن جودا الشهيران عالميا، بالإضافة إلى جبن الماعز والأغنام، والجبن الكريمي، والمدخّن، والمخلوط بالأعشاب، والجبن المعتق ذي الطعم القوي.
وسواء كنت من عشاق الجبن أو تجرّبه بدافع الفضول، ستجد نوعا يلائم ذوقك. وبالطبع، يمكنك شراء الأنواع التي أعجبتك من الجبن، منه ما هو معروض في عبوات صغيرة للهدايا أو بالحجم الكامل للاستمتاع به لاحقا.
القباقيب الخشبية
من أبرز التجارب الفريدة في زانسي سخانس زيارة ورشة صناعة القباقيب الخشبية، تلك الأحذية التقليدية المصنوعة بالكامل من الخشب التي لطالما ارتبطت بالريف الهولندي، ولا يزال يُرتدى في بعض المناطق الريفية إلى اليوم.

تقع الورشة في مبنى خشبي كبير كان يستخدم كمستودع للحبوب في القرن الـ18، عند دخولك تستقبلك عروض حيّة يومية لصنّاع مهرة يُحوّلون كتلة خشب صلبة إلى حذاء خشبي متقن، باستخدام أدوات يدوية وآلات تقليدية.
في هذا العرض تشاهد أمامك خطوات النحت والتجويف والقطع بكل دقة، بينما يشرح العاملون كيف كان الفلاحون الهولنديون يعتمدون على هذه الأحذية المتينة لحماية أقدامهم أثناء العمل في الحقول، أو حتى عند التزلج على الجليد شتاء.
بعد العرض، يمكن للزوار استكشاف متحف القباقيب المرفق بالورشة، الذي يضم واحدة من أروع مجموعات الأحذية الخشبية في العالم.

ستجد فيه قباقيب من مناطق مختلفة داخل هولندا، بعضها ملون بزخارف يدوية تقليدية، مثل قباقيب الزفاف، وقباقيب التزلج، إلى جانب نماذج من قباقيب مستوردة أو غريبة الشكل تُعرض للفرجة.
الجزء الأكثر مرحا من التجربة هو ارتداء القباقيب الخشبية الملونة ذات الأحجام المتعددة، وبعضها بالحجم العملاق للعرض والتقاط الصور الطريفة بداخلها سواء كنت واقفا أو جالسا، ومنها المناسب للمقاس الفعلي لتجربتها. كما يمكنك شراء قباقيب صغيرة خشبية ملونة كتذكار أصيل من هذه الرحلة الريفية.
الحيوانات الأليفة
من أجمل الأنشطة البسيطة والمجانية في زانسي شانس التجوّل بين الحيوانات الريفية الأليفة التي تتحرك بحرية في أرجاء القرية. سواء بدأت يومك بهذه التجربة أو ختمته بها، ستشعر أنك جزء من حياة ريفية هادئة لم تتغير كثيرا مع مرور الزمن.

على طول الطرقات والمزارع، سترى الأبقار والأغنام ترعى بهدوء في المراعي الخضراء، بينما الأوز يسبح في القنوات المائية، وتتنقّل الدجاجات والديوك بين الحقول وممرات القرية. هذه اللحظات البسيطة تتيح للزائرين الاندماج في الإيقاع البطيء للحياة الريفية.
كما أنه نشاط مثالي للعائلات، يمكن للأطفال مشاهدة الحيوانات عن قرب، أو إطعامها برفقة الأهل وتحت إشرافهم، تجربة بسيطة لكنها مليئة بالدفء تذكّرنا بأن أجمل ما في السفر أحيانا هو التوقّف قليلا، ومراقبة الحياة كما هي.
مُشاهدة القرية
إذا كنت ترغب في رؤية زانسي سخانس من زاوية مختلفة تماما، فلا تفوّت فرصة الإبحار على الضفة الشرقية لنهر زان. تسعى إدارة القرية إلى الحفاظ على النهر خاليا من القوارب الكبيرة والسفن التجارية حفاظا على هدوئه وطبيعته البكر.
لذا تُتاح فقط جولات محدودة بقوارب صغيرة مفتوحة تتّسع لـ12 شخصا كحد أقصى لتمنح الزوار فرصة مشاهدة طواحين الهواء والمنازل الخشبية الملونة من الماء في هدوء.

تستغرق الرحلة نحو 25 دقيقة، وتنطلق كل نصف ساعة، برفقة مرشد محلي يروي للركاب حكايات من تاريخ زانسي شانس، ويستعرض تفاصيل حياة التجار وأصحاب الطواحين الذين عاشوا على ضفاف النهر منذ قرون.
هذه الجولة ليست فقط وسيلة للتنقل، بل لحظة تأمل واستغراق هادئة يمكن أن تختم بها يومك في زانسي شانس، كما أنها تتيح التقاط صور مبهرة لمعالم القرية من منظور مختلف.
شراء الهدايا
قبل أن تغادر لا تنسى شراء هدية صغيرة أو تذكارا أصيلا من زانسي سخانس يذكرك برحلتك إلى الريف الهولندي. ابدأ من الطواحين وورش العمل نفسها، حيث يمكنك شراء منتجات محلية مصنوعة يدويا مثل الجبن الشهير والوافل الهولندي الطازج.
بعدها، تجوّل في المتاجر الصغيرة المنتشرة في أنحاء القرية، وستجد مجموعة واسعة من التذكارات التي تناسب كل الأذواق والميزانيات.
ومن أبرز الهدايا التذكارية مجسمات مصغّرة لمنازل زانسي سخانس والطواحين الهوائية، المصنوعة من الخشب أو الخزف الملون، بالإضافة إلى زهور التوليب الخشبية المطلية يدويا بألوان زاهية.

وإن كنت تبحث عن تذكار مميز، فلا يفوتك اقتناء التماثيل الصغيرة المصنوعة من الخزف الأزرق “دلفت الملكي”، وهو منتج هولندي فاخر يعكس تراث صناعة الفخار منذ عام 1653.
تذوق الطعام
بعد يوم حافل بالأنشطة والتجوال، لا شيء يُكمل يومك في زانسي سخانس أفضل من تذوّق الفطائر الهولندية التقليدية في مطعم بانكيك دي كراي (Pannenkoeken De Kraai)، أحد أشهر مطاعم القرية.
يقدّم المطعم تشكيلة شهية ومتنوعة من البانكيك الهولندي، سواء كنت تفضلها حلوة أو مالحة.
وإن كنت تبحث عن لحظة هدوء، فاستمتع بجلسة مريحة في أحد المقاهي أو المطاعم الصغيرة المطلة على النهر، حيث تُقدَّم أطباق خفيفة، ومشروبات دافئة، وحلويات محلية لذيذة.
تلك الجلسة مع الطعام أو المشروبات المحلية، وسط مشهد الطواحين والمراعي، هي الطريقة المثالية لاختتام زيارتك لهذه القرية الساحرة.