كتب رئيس تحرير تايم نيوز أوروبا بالعربي | سعيد السبكي
بذلت الدول الأوروبية جهود كبيرة واضحة منذ تأسيس الجماعة الأوروبيَّة للفحم والصلب ( The European Coal and Steel Community) والمعروفة اختصارًا بـ ECSC وهي منظَّمة تألفت آنذاك من ستة دول أوروبيَّة تأسست بعد الحرب العالميَّة الثانيَّة بهدف تنظيم الإنتاج الصناعي لأعضائها تحت مظلة سلطة مركزيَّة ، وقد تأسست الجماعة رسميًا عام 1951م بموجب معاهدة باريس التي وقَّعت عليها كل من بلجيكا، وفرنسا، وإيطاليا، ودوقية لوكسمبورغ، وهولندا، وألمانيا الغربيَّة.
تطورت الجماعة الأوروبيَّة للفحم والصلب الى السوق الأوروبية المُشتركة ثم الاتحاد الأوروبي كما نعرفه الآن بأعضاء الـ 27 دولة منهم 19 أعضاء فى اتحاد اقتصادي أفرز العُملة الأوروبية الموحدة ” اليورو ” ، ومع هذا التطور السياسي المُتدرج انساقت مُعظم دول أوروبا الغربية خلف توجهات القوى العُظمى وعلى رأسها أمريكا وراء ما عُرف بـ ” النظام العالمي الجديد ” .
تقول كثير من مؤسسات صناعة السياسات الأوروبية اليوم ان النظام العالمي أصبح على المحك خاصة بعد تولي ” دونالد ترامب ” رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
يبدو ان هناك شروخ سياسية خفية بين أوروبا وأمريكا بدأت تظهر على السطح ، فبعد إعلان أمريكا فى ظل أجندة رئاسة ترامب2 ( زيادة الإنفاق الدفاعي وفرض الرسوم الجمركية التجارية ) سادت فى أوروبا مشاعر القلق بين – التحفظ والجرأة والحياد – وفق المصالح الوطنية المحلية لكل دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي على حده.
فعندما تولى دونالد ترامب منصب الرئيس قبل أكثر من ثماني سنوات، سارع رؤساء الوزراء البريطاني والألماني والإيطالي إلى واشنطن للقاء به. حتى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بادر بدعوة ترامب إلى مأدبة عشاء عمل في برج إيفل، على أمل تخفيف لهجة خطاب أميركا.
لكن كان كل هذا بلا جدوى فبعد أقل من ستة أشهر من توليه منصبه، قرر ترامب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ. وبعد ذلك انسحبت الولايات المتحدة من منظمة اليونسكو، والاتفاق النووي الإيراني، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وبدأت إجراءات انسحاب منظمة الصحة العالمية بمجرد أن أصبح جائحة كورونا خطيرًا.
خلال فترة ولايته الأولى، منع ترامب تعيين القضاة في هيئة الاستئناف التابعة لمُنظمة التجارة العالمية، وطالب بخفض المساهمات في نظام الأمم المتحدة، وخفض التمويل لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ودخل في نزاع مع الاتحاد البريدي العالمي بشأن أسعار شجنات البريد الصينية كما هدد مرارا وتكرارا بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي.
بالنسبة لترامب، فإن شعار أميركا أولا يعني قبل كل شيء تفكيك النظام العالمي الذي عمل أسلافه على بناؤه بشكل مطرد منذ عام 1945.
عندما تولى بايدن رئاسة الولايات المتحدة في عام 2021، تمكنت الولايات المتحدة من إعادة الانضمام إلى اتفاق باريس للمناخ بسهولة نسبية، وتمت استعادة الرابطة عبر الأطلسي، واستمرت البلاد في منظمة الصحة العالمية، وتمت استعادة التمويل لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). وفي الوقت نفسه، أصبحت هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية بلا قُضاة، وأصبحت الصفقة الإيرانية منتهكة.
إن ولاية ترامب الثانية تعني فرصة ثانية لأمريكا أولاً. وأوروبا ليست غير مستعده له فحسب، بل لا تأخذه على محمل الجد بدرجة كافية.
إن النظام العالمي المتعدد الأطراف على المحك، بينما أوروبا تستجيب لتقلبات ترامب اليومية على أساس ارتجالي في المقام الأول.
بعض خبراء السياسة فى الاتحاد الأوروبي يقول إن الخطط الطارئة لترامب 2 كانت تسير على قدم وساق داخل المفوضية الأوروبية وحلف شمال الأطلسي.
فبفضل سلطاتها الحصرية على التجارة، من المنطقي أن تكون المفوضية في الخط الأمامي عندما يتعلق الأمر بالرسوم الجمركية التجارية التي يفرضها ترامب. وقد هددت المفوضية الأوروبية فى العاصمة البلجيكية بروكسل بالرد بقوة في حالة اندلاع حرب تجارية. وصرح سياسية أوروبي رفض الاعلان عن اسمه بقوله : العين بالعين، على أمل أن يعود ترامب إلى رشده قريبًا.
حتى الآن تُعطي أوروبا الأولوية أيضًا لدعم أوكرانيا والحاجة إلى بقاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي. وفي إطار حلف شمال الأطلسي، وسوف يتعين على الحلفاء الأوروبيين الوفاء بالتزاماتهم، ومن المُرجح أن يتم ذلك من خلال وعد رسمي في القمة المهمة التي ستُعقد في العاصمة السياسية لهولندا لاهاي في شهر يونيوالقادم.
من الواضح ان التركيز الأوروبي على التجارة والأمن محدود للغاية وقد أصبح هذا واضحا في الأسابيع الأخيرة. لكن في مجال التحول الرقمي، ركز الاتحاد الأوروبي مؤخراً على فرض القواعد على وادي السيليكون، بما في ذلك لائحة حماية البيانات، والخدمات الرقمية، وقانون الذكاء الاصطناعي.
فعلى الرغم من ” تأثير المفوضية الأوروبية في بروكسل ” الذي كثيراً ما يتم التباهي به، والذي تفرض فيه أوروبا معاييرها على بقية العالم، نجد ان أشخاص مثل إيلون ماسك ومارك زوكربيرج يدوسوا أوروبا بأقدامهم بقوة تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي وعلوم الفضاء.
ومع ذلك، هناك الكثير مما يدور على أجندة “أميركا أولا”. ولن يكتفي دونالد ترامب بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ مرة أخرى، بل إنه يُخطط أيضًا للاعتماد بشكل كبير على الوقود الأحفوري، مما سيكون له آثار كارثية على المناخ. ويفكر ترامب أيضًا في إلغاء مبدأ “الدولة الأكثر تفضيلًا”، الذي ينص على أن الدول لا يمكنها التمييز ضد بعضها البعض في منظمة التجارة العالمية، بالنسبة للصين.
علاوة على ذلك، فإن الوضع بالنسبة للأونروا مأساوي. ومن المقرر أن يدخل الحظر الإسرائيلي على هذه المنظمة حيز التنفيذ في نهاية شهر يناير الحالي. والآن ترامب على رأس كل ذلك. لا تتحمل الأونروا مسؤولية تقديم المساعدات الإنسانية لنحو مليوني فلسطيني في غزة فحسب، بل تحمي المنظمة أيضًا أربعة ملايين لاجئ فلسطيني آخرين في المنطقة. ومن ثم فإن إنهاء عمل الأونروا قد يكون له عواقب وخيمة على عدم الاستقرار الإقليمي فى الشرق الأوسط وقد يؤدي بشكل غير مقصود إلى تدفقات اللاجئين.