كتب | د.ماجد فياض
لقد نطق الوشق المصري بمخالبه، لا بالخُطب والشعارات، بل بخطواتٍ جريئةٍ اخترقت الحدود، ليمزّق خيوط الوهم. وكأني أسمعه يزأر في وجه التاريخ: قد يوقّع البشر معاهداتهم، لكنني لم أوقّع، ولم أُقرّ سطور السياسة، ولن تُقيدني خيوط العنكبوت!
لم يحمل الوشق غصن زيتون، ولم يرفع راية بيضاء، بل باغت الجنود على الجانب الآخر دون أن يُعلن السلام كخيار استراتيجي أو يُلقي خطب المصالحة. ولم يكن سفيرًا لدبلوماسية هشّة منكّسة الرأس.
لم يكن يبحث عن “التريند”، بل جاء برسالة محددة: أن التاريخ لا يُكتب دائمًا بأيدي الساسة، بل ربما بمخالب مخلوق بريّ.
أما الجماهير التي جعلت منه بطلًا،وأميرًا للمقاومة والرفض، فقد فعلت ذلك لأنها في قرارة نفسها تبحث عن منقذ، حتى لو جاء على هيئة وحش من البراري. فالدراسات النفسية تؤكد أن الإنسان، في أوقات الأزمات، يسقط مشاعره وأحلامه على أي كائن خارجي يمكنه أن يجسدها. هذه الظاهرة تُعرف بـ “الأنسنة” (Anthropomorphism)، حيث يُمنح الحيوان صفات إنسانية، ليصبح رمزًا للقوة والمقاومة حين تعجز الأيدي عن الفعل.
وفي السياق الاجتماعي، تُعبر هذه الظواهر عن حاجة الجماعات إلى رموز توحّدها وتمنحها شعورًا بالقوة.
هي حيلة نفسية قديمة لطالما استخدمتها الشعوب، إذ جعلت بعض الحيوانات رموزًا تعكس قيمها وتطلعاتها. فالعقاب، مثلًا، اعتُبر في العديد من الثقافات ملك السماء، ورمزًا للشجاعة والحرية، وارتبط بالآلهة في الأساطير المختلفة، كما هو الحال في مصر القديمة، حيث كان رمزًا للإله حورس الذي يحمي المعابد ببصره الثاقب.
أما “الوشق المصري”، فلم يكن سوى أحدث حلقات سلسلة طويلة من الأحداث التي تحوّلت فيها الطبيعة إلى لاعب في الميدان السياسي. ففي عام 2016، ظهر دب روسي قرب منشآت عسكرية، فأصبح رمزًا لـ”القوة العفوية” الروسية. وفي فلسطين، اتُهم نسر بحمل “أجهزة تجسس”، فتحوّل إلى قصة سياسية ساخرة. أما في اليمن، فقد حملت ناقة المؤن عبر مناطق الحرب، فأصبحت رمزًا للصمود. الحيوانات، في كل هذه القصص، لم تكن تدرك أدوارها، لكنها جسّدت أحلامًا دفينة لشعوب تبحث عن أي إشارة للخلاص.
وراء كل هذه القصص يكمن شعور بشري أزلي: الرغبة في الانتصار دون معركة، والخلاص دون تضحية. إن الإنسان، حين يعجز عن الفعل، يبحث عن معجزة خارج نفسه، عن قوة غير مرئية تتحرك بالنيابة عنه. وهذا ما يجعل هذه الرموز الطبيعية تشتعل بسرعة، لأنها تمنح الجماهير إحساسًا بأن هناك يدًا خفية تتدخل لصالحهم، دون أن يضطروا لبذل جهد.
لقد جاء “الوشق المصري” وسوف يذهب، لكنه حتمًا سيترك خلفه أمة مهزومة تكتفي بالهتافات على مواقع التواصل، وبالتصفيق لمعارك الطبيعة،
وغير مستعدة على الإطلاق لكتابة معركتها بأيديها.