القائمة

السودان | يومٌ للخرطوم ويومٌ للدهشة!

غرفة الأخبار 3 أيام مضت 0 8.1 ألف

كتب : د.ماجد فياض

هل تصدقون أنني كُنت شاهدًا على مأساةٍ صامتة، لم تجد صداها في الشاشات، ولم تصل تفاصيلها الحقيقية إلى من يظنون أن الحرب مجرد خبرٍ عابر في نشرات الأخبار؟

من داخل عيادتي، استمعتُ إلى قصص تفوق آلام المرض، قصص النزوح، الفقد، والانكسار الذي لم يختاروه. عشرات المرضى السودانيين، كانوا يومًا رجال أعمال ناجحين، يملكون الأراضي والبيوت والمصانع، لكنهم فرّوا إلى السعودية بلا مالٍ يكفيهم، يبحثون عن علاجهم عبر الجمعيات الخيرية، بعدما كانوا قادرين على علاج الآخرين.

أما المهندس بشير، فقد قضى أربعين عامًا في الغربة، يكدح ويجمع المال، ليعود أخيرًا إلى وطنه ويعيش شيخوخة كريمة، لكنه وجد منزله وقد تحوّل إلى سجنٍ مؤقت، يصرخ فيه الأبرياء الذين وقعوا في قبضة عصابات الجنجويد . وحين فشلوا في سرقة سيارته الفارهة، صبّوا عليها البنزين وأحرقوها أمام أعين المارة، كأنهم يعلنون: “لن نترك لك شيئًا مما تملكه.”

هذه ليست مجرد حكاياتٍ فردية، بل هي السودان في سنواته الأخيرة، وطنٌ مزّقته الحرب، غارقٌ حتى الثمالة في قصص الاغتصاب والإفراط في القتل والرعب.

لكنّ السودان لم يكن مجرد أزمةٍ داخلية، بل كان ساحةً مفتوحةً لصراع المصالح الإقليمية والدولية.
موسكو تبحث عن الذهب السوداني وقاعدةٍ على البحر الأحمر، وواشنطن لا ترى السودان إلا من خلال صراعها مع بكين وموسكو في إفريقيا. أما تلك الدولة الخليجية الصغيرة، فقد استثمرت في الفوضى، وجدت في دعم الخراب وسيلةً لتعزيز نفوذها في منطقةٍ تموج بالصراعات. لعبت دورًا محوريًا في تمويل وتسليح قوات الدعم السريع عبر مساراتٍ خفية، سعيًا لتمكينها من السيطرة على البلاد. لم يكن ذلك مجرد دعمٍ عابر، بل كان استثمارًا في الهيمنة، رغبةً في السيطرة على مناجم الذهب في دارفور، ورؤيةً للجنجويد كأداةٍ لإضعاف الجيش السوداني، لضمان نظامٍ سياسيٍ يخدم مصالحها، سواء ببقاء الميليشيا في المشهد أو بفرض واقعٍ تقسيمي يتيح لها موطئ قدمٍ دائم في السودان.

أما أنقرة، فقد سعت إلى توسيع وجودها عبر الاستثمارات والمشروعات التنموية، بل والتعاون العسكري، خاصةً في جزيرة سواكن، البوابة العثمانية التاريخية. ومع اندلاع الصراع، تبنّت تركيا موقفًا حذرًا، متجنّبةً الانحياز العلني لأي طرف، رغم علاقتها القوية بالمكوّن العسكري قبل الحرب. لكنها لم تغلق الباب أمام قوات الدعم السريع، بل حافظت على قنوات اتصالٍ غير مباشرة، متأرجحةً بين المصالح والتوازنات الإقليمية.

في المقابل، كانت القاهرة تدرك أن سقوط السودان ليس مجرد اضطرابٍ في جوارها، بل ارتجاجٌ في قلبها. لم يكن السودان بالنسبة لمصر مجرد جارٍ، بل امتدادٌ حضاريٌّ لا ينفصل. فمنذ فجر التاريخ، كان وادي النيل جسدًا واحدًا، حكم ملوك مصر بلاد النوبة والسودان، وحكم فراعنة النوبة – مثل بعانخي وتهارقا – مصر نفسها، حتى جعلوا من مروي عاصمةً لمصر والسودان معًا. وفي العصر الحديث، أعاد محمد علي باشا السودان إلى الحكم المصري، وسار أبناؤه من بعده على النهج ذاته، حتى انتهى النفوذ المصري هناك بثورة المهدي وحصار غوردون في الخرطوم.

كانت مصر تدرك حساسية التدخل العسكري، لكنها كانت تدرك أيضًا أن انهيار السودان تهديدٌ وجوديٌ لأمنها القومي، فتحرّكت بدبلوماسيةٍ حذرة ودعمٍ غير مباشر لاستعادة التوازن.

وبين هذه الحسابات المتشابكة، لم يكن السودانيون سوى الرقم الأضعف في معادلةٍ تحكمها المصالح قبل المبادئ.

لكن اليوم، ولأول مرة منذ عامين، تستعيد الخرطوم هويتها. ليست مجرد استعادةٍ للمدن، بل استعادةٌ للكرامة، للأمان، للحياة التي توقّف بها الزمن عند لحظة الخراب.

عادت الخرطوم، لكن السودان لا يزال جريحًا، مثقلًا بأعباء إعادة الإعمار، ولا تزال هناك أيادٍ خفيةٌ تحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.

ربما يكون هذا اليوم بدايةً جديدةً لعلاقةٍ أكثر صدقًا بين شريكي وادي النيل، علاقةٌ مبنيةٌ على الوعي بأن أمن أحدهما ليس ترفًا للآخر، بل ضرورةٌ وجودية.

لكنّ المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد؛ معركة بناء دولةٍ لا تخاف الانقلابات، ولا تستدرجها الأموال الفاسدة، ولا تتحول إلى ملعبٍ للقوى الخارجية.

وعلى الجيش السوداني ألّا يكون جزءًا من أزمة بلاده مرةً أخرى، وألّا ينقلب على مدنييه، منشغلًا بصراعاته الداخلية أكثر من أعدائه الحقيقيين.

كتب بواسطة

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

اترك تعليق

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *