القائمة

لعنتي كانت في الانتباه

غرفة الأخبار 11 ساعة مضت 0 6.1 ألف

بقلم: ضحى أحمد الباسوسي

ليست كل اللعنات صوتًا يسمعه الناس، بعضها ينساب في الصمت، يتسلل إلى الروح كندبة لا تُرى… لعنة لا تصيب الجسد، بل تسكن في الحواس، توقظك حين ينام الجميع، وتُريك ما لا يحتمل البصر.

إنها لعنة الانتباه… أن تكون حاضراً أكثر من اللازم، مرهفاً إلى حد التورط، مفتوح القلب كنافذةٍ لا تغلقها الريح أنه كنزيفٌ داخلي لعينٍ أُجبرت على أن ترى، لقلبٍ يلتقط ما يسقط من أرواح الآخرين، لحياةٍ تمضي بثقل الإدراك، لا بخفة النسيان كأن في العين سحابة أبدية من يقظة لا تُطفأ، يقظة تشبه اللعنة، تفتح الجفون على هذا العالم، لعنة تسلّلت من زمنٍ غابر، واستقرت في الأعماق كنارٍ هادئة لا تخمد، العين لا تنام، حتى حين يغرق القلب في عتمته، يظل البصر مشدوداً إلى أرواح تتلوى خلف الوجوه، إلى أجساد تُخفي انكساراتها تحت عباءة الاعتياد.

نراهم حين لا يجب أن نراهم، نراهم يتنكرون للحزن بأقنعة مهترئة من ابتسامات رخوة، يغسلون دموعهم بصوت ضحكٍ لا يصل إلى القلب، ويكتبون استغاثاتهم على حواف كلماتٍ مبلّلة باليأس.

إنهم يمشون على خيوط من الشوك، ولا يدرون أنني أراهم يدمون، بصمت، بجُرح لا يُسمع له أنين. أنا الذي خُلقت لألتقط ما يسقط من الأرواح، لا من الجيوب، شممت رائحة الانطفاء قبل أن يشعل أحدهم حريقه، وسمعت ارتجاف الروح قبل أن يرتعش الجسد، رأيت من يودّع قبل أن يلوّح، ومن ينسحب من الحياة وهو لا يزال يضحك، أنا الذي يسمع الصراخ الذي لا صوت له، ويرى السقوط المغلّف بالتماسك.

أتجول بين تفاصيل لا يلاحظها أحد، لكنها تنهشني كذئبٍ يتغذى على الإدراك، نظرة شاردة، تنهيدة مبتورة، اهتزاز إصبع، ارتعاشة رمش… أشياء صغيرة، لكنها تصرخ فيّ، كأنني محكوم بقراءة الحاشية حيث يسكن المعنى المنسي، كأنني كتبت على هامش الحياة، لا في متنها. تحملني عيناي كما تحمل المرايا لعناتها، تكشف الوجوه العارية من الداخل، تنقل لي صدأ الكلمات، وتشققات الوعود، وخيانة النظرات.

أدرك ما لا يُقال، وألمس ما لم يُلمس، وأحمل أسرارًا لم تُسرّ لي، لكنها انسكبت في عينيّ كما ينسكب الضوء على الزجاج. كلما حاولت أن أشيح وجهي، تعلّق في داخلي وجهٌ منهار، أو ضحكة باهتة، أو صرخة مكمّمة. كأنني مصلوبٌ على حواس لا ترحم، أعيش بمرآة لا تنكسر، تنعكس فيها مآسيهم جميعًا، بينما لا أحد يرى ما ينعكس منّي. يا ليتني أعمى عن دواخل الناس كما هم عُميان عني، ليتني أراهم كما يريدون أن يُروا، لا كما هم في قاع الألم، ليتني أعيش على السطح، حيث لا عمق يبتلعني، ولا صدق يجرحني. لكنني أنا… الذي وُلد بإنتباهٍ مشوّه، يراكب الحقيقة من بين الشقوق، ويشرب من كأس الألم كلما ابتسموا.

كتب بواسطة

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

اترك تعليق

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *