القائمة

الكتاتيب والهوية الضائعة: كيف غيّر الاستعمار عقل الطفل العربي

غرفة الأخبار 4 أسابيع مضت 0 2.2 ألف

في لحظات التحوّل الحضاري الكبرى، لا يكون الهجوم دائمًا على الثروات أو الجيوش، بل غالبًا ما يُوجّه إلى منابع تشكيل الوعي. وعندما سقطت الخلافة الإسلامية في بدايات القرن العشرين، لم تكتفِ القوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية بالسيطرة السياسية والعسكرية، بل بدأت في دراسة «السرّ» الذي مكّن المسلمين من بناء حضارة امتدّت من المحيط إلى المحيط خلال 13 قرنًا.

يشير المؤلف الأمريكي “جيسون” في كتابه “الإسلام الثوري” إلى دراسة مشتركة أعدّها الإنجليز والفرنسيون بعد سقوط الخلافة، خلُصت إلى نتيجة مفاجئة: الطفل المسلم في سنواته الأولى كان يتلقى تعليمًا يمنحه أدوات عقلية جبارة. فمن عمر الثالثة حتى السادسة، يحفظ القرآن الكريم، ومن السادسة حتى السابعة، يدرس ألفية ابن مالك، ألف بيت شعري تحوي قواعد اللغة العربية.

النتيجة؟ طفل في السابعة من عمره يتقن لغة القرآن، يفكر بمنطق نحوي صرفي عميق، ويتفاعل مع النصوص بفهم وتدبر. إنه مشروع عقل لا يُقهر.

وهنا بدأ التخطيط المضاد.

فرنسا اختارت المواجهة المباشرة: أغلقت الكتاتيب في مستعمراتها في شمال أفريقيا ولبنان وسوريا، وحاربت كل مؤسسة تعليم تقليدية. أما بريطانيا، فاختارت أسلوبًا أكثر دهاءً: فتحت مدارس أجنبية للنخب، وفرضت التعليم “الحديث” من سن السادسة، متجاوزةً أهم مرحلة في حياة الطفل – السنوات السبع الأولى – حيث تتشكل اللغة والهوية والانتماء.

كان الهدف واضحًا: تفريغ الطفل العربي من لغته، عزله عن القرآن، وجعله يدخل المدرسة وهو غريب عن الفصحى. وهكذا، بدلاً من أن يكون تعلم اللغة عملية بناء طبيعي، أصبحت اللغة العربية عند الطفل العربي «مادة صعبة» و«غريبة» لا تمت لبيئته بصلة. وسرعان ما بدأت مشاعر الرفض تتكوّن منذ المراحل الأولى للتعليم.

لكن الأخطر من هذا كله أن الأنظمة التربوية العربية بعد الاستقلال (الشكلاني) تبنّت نفس هذا النهج، بل تجاوزته أحيانًا. فتم تهميش حصة التربية الدينية، وتقليص الاهتمام بالنحو والصرف، وربط قيمة اللغة بمعدل الدرجات لا بمكانتها في العقل. وتحول التعليم إلى حفظٍ آليٍ خالٍ من الروح والمعنى.

والنتيجة؟ أجيال غير قادرة على قراءة صفحة من كتاب دون عناء، تتهيب من قراءة القرآن بلغة سليمة، وتعتقد أن المعرفة الحقيقية لا تأتي إلا بلغة أجنبية. اغتراب لغوي وفكري جعل الطفل العربي يتعلم منذ نعومة أظفاره أن لغته “عائق”، وليست وسيلة.

ما تجاهلته المؤسسات التعليمية هو حقيقة ثابتة تؤكدها علوم النفس والتربية: السنوات السبع الأولى من عمر الإنسان ليست سنوات هامشية، بل هي مرحلة التأسيس الأعظم. فيها يُبنى الدماغ، وتتشكل خرائط التفكير، وتُزرع مفاهيم الانتماء والهوية واللغة والعقيدة. والمسلمون أدركوا هذا مبكرًا، فصنعوا الكتاتيب لتكون معامل تشكيل العقول.

ولأن الاستعمار أدرك خطورتها، دمّرها.

وإذا كنا اليوم نعيش أزمة هوية حقيقية، فعلينا أن نعود إلى الجذر الذي تم اقتلاعه عمدًا. فاستعادة الكتاتيب – لا بشكلها التقليدي فقط بل بفلسفتها التربوية – ضرورة حضارية، لا مجرد حنين ماضوي.

إن من يملك السنوات السبع الأولى من عمر الطفل، يملك مستقبل أمّته.

Email: magy-news@hotmail.com

كاتب

  • تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

كتب بواسطة

تعمل أسرة تحرير شبكة تايم نيوز أوروبا بالعربي بفريق عمل يسعى جاهداً على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع لنشر أخبار عربية وعالمية، ترصد أخبار الوطن العربية لعرب المهجر وتضعهم في بؤرة اهتماماتها الأولى

اترك تعليق

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *